قام صاحبنا فما حمد الله ولا أثنى عليه, بل حمد الحاضرين وأثنى عليهم, وفرح بي وشكر لي أن حضرت هذا الاجتماع الذي لا يحضره عادة علماء الإسلام (يعني الفقهاء الذين ما زالوا يفضلون البقاء في ظلمات الجمود! ثم قال: ومن جمود هؤلاء "الفقهاء" أيها السادة؟ أنهم يؤمنون إيمانا جازما أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- أمي لا يقرأ ولا يكتب وذلك ليكون القرآن من عند الله لا من عمل محمد- صلى الله عليه وسلم- ونحن نعتقد أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ ويدرس الكتب القديمة, ونعتقد أن القرآن كان من عمله هو, وما أنزل الله على بشر من شيء.
ثم قال: وينبغي لنا أن ننبذ التعصب الديني ظهريا, فلا نترك- تعصباً-هذه الحضارة الغربية اللامعة, وما فيها من زخرف وزينة, الى حضارة قديمة يقال أنها كانت لآبائنا القدماء المسلمين. فلنتمسك بهذه الحضارة الغربية المغرية, ثم أن وافقت حضارة الإسلام القديمة فذلك ما كنا نبغي, وان خالفتها فحاجتنا إلى حضارة عاجلة هي زينة الحياة الدنيا, لا إلى حضارة إسلامية غابرة نجهلها ولا نعرفها. ثم تكلم عن حركة التجديد المتحرك في مصر وفي بلاد الشرق, وتمنى لها أن ينتصر السفور فيها على الحجاب, ثم استنهض إلى تحرير المسلمة الجزائرية حتى تكون كالمرأة الفرنسية حريةً وسفورا وأخيراً طلب إلي أن أقول كلمتي في هذا الأمر, وكان يحسبني سأصادق على ما قال. ولكني نهضت فنقضت أقاويله هذه نقضاً حتى لم أبق منها على شيء, وحتى اقتنع الناس ببطلان تلك المفتريات, بل هو نفسه قد اقتنع وسلم تسليما.
وجملة ما قلته يومئذ: إن قادة الفكر في الجزائر أيها الإخوان فريقان: فريق متفرج متخرج من المدارس الفرنسية, يحتقر أمته, ولا يحترم دينها ولا عوائدها ولا تاريخها, وكل ما يقدمه لها أنه يرميها بالجهل والجمود. وفريق آخر من"الفقهاء" يحذرون الأمة من هؤلاء المتفرنجين, ويصمونهم بالكفر والمروق من الإسلام. وهكذا ضل هؤلاء الفريقان دهراً طويلاً, ما يكلم أحد منهم أحداً, ولا يرأم الرجلُ منهم أخاه, ولا فكروا في تكوين وحدة إسلامية تنتفع بها أمة الجزائر. حتى بعث الله هذه الفئة المباركة من شبان الجزائر, وهي جماعة" الإصلاح الديني " فجعلت دستورها القرآن الكريم الذي هو خير جامعة تجمع أشتات الجزائر المتناثرة. وقد وفقت إلى أن تحطم بالقرآن العظيم كثيراً مما لصق بالإسلام من خرافات وأضاليل, وهي ترجو أن يهيئ الله لها من أمرها رشدا, فيرجع بالمسلمين إلى الدين الخالص, والإسلام الصحيح, ويخرجهم من الظلمات إلى النور. وترجو كذلك أن توفق إلى أن تهدي بالقرآن العظيم أبناءنا المتفرنجين الذين ضلوا صراط الله المستقيم, فحسبوا أن الإسلام إنما هو ما يعمه فيه جهلة المسلمين من الجهل والضلال. فكان ذلك عوناً للاستعمار على أن يحتل عقول أبنائنا, ويبث فيهم الزيغ والتفرنج, ولو أن أبناءنا اهتدوا بهدي النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- وتخلقوا بخلق القرآن, لما غلبنا الاستعمار على أفئدتهم وأسماعهم وأبصارهم حتى صاروا ولهم قلوب لا يفقهون بها إلا ما يرضي الاستعمار, ولهم آذان لا يسمعون بها إلا ما يرضي الاستعمار, ولهم أعين لا يبصرون بها إلا ما يرضي الاستعمار.
إن الاستعمار أيها السادة يقول: ما منع المسلمين أن يندمجوا فينا إلا القرآن الذي جعلهم يندمجون في الأتراك ويرضون بهم سادة حاكمين عليهم. ولذلك فان في رجال الاستعمار من يحاربون القرآن, ويصدون عن سبيل الله, حتى لا يكون هناك دين يمنع المسلمين أن ينسوا أنفسهم, ويتهافتوا على التفرنج والاندماج, ويومئذ لا تكون فتنة, ويكون الأمر كله للاستعمار (لا قدر الله).
ويحارب الاستعمار القرآن أيها السادة بهذه المدارس التي ينشرها في سائر بلاد الإسلام, يفترى فيها على الله الكذب, ويتقول فيها على الإسلام الأقاويل, فيزعم أن القرآن من عمل الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا من عند الله, لكي يهون من أهمية هذا الكتاب العظيم, ويزعم أن محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف القراءة والكتابة, ويدرس الكتب القديمة, لكي يصح أن يكون هو الذي عمل القرآن.
وهذه أيها السادة مفتريات قد افتراها العرب المشركون في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم- من قبل أن تتمضمض بها ألسنة هؤلاء المستعمرين. وقد دحضها القرآن وزيفها تزييفا.
¥