ومع أني قد أعددت محادثة ألممت فيها بهذا الموضوع من جميع نواحيه, وسأطلب إليكم أيها السادة أن تستمعوا لها في ليلة قادمة, فإني أقول الآن: إن القرآن الكريم, أيها السادة, وإن كان المنطق الإنساني يقصر عن وصفه, وعن الإحاطة بكماله, الذي لا يحد ولا ينتهي, فإن من يتدبر- ولو قليلا - يعلم أنه منزل من الله ما فيه من شك, وأنه ما يقدر عليه من أحد غير الله بتناول القرآن ما يسمونه (الفلسفة الإلهية) أو"الإلهيات" ونسميه نحن"غيب السموات والأرض" فيذكر لنا من ذلك ما يمكن أن تؤمن به الفطرة البشرية كلها, أو ما يجب على الفطرة البشرية كلها أن تؤمن به إيمانا فيه الرضى, وفيه الهدؤ والاطمئنان. وما لم يذكره القرآن في هذا الباب أيها السادة, فهو فوق ما تتناوله هذه الفطرة البشرية, والناس قد اختلفوا فيه اختلافاً كثيرا, ولا يزالون فيه أبد الدهر مختلفين لا يتفقون, ثم لا يهتدون فيه إلى شيء من اليقين. إن هم إلا يظنون, وان الظن لا يغنى من الحق شيئا وألممت إلمامة مجملة بقواعد التشريع, وأحوال الحكم في القرآن. ثم قلت:
و يتناول القرآن إصلاح هذه الإنسانية من ناحية التربية والتهذيب فيضع لها المثل الأعلى للفضيلة والخلق الكريم. ويدعوك القرآن إلى هذا المثل الأعلى من الفضيلة والخلق الكريم, ويشوقك إليه, ويغريك به إغراء كثيرا, حتى يصل بك- إذا أنت تخلقت بخلقه- إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه امرؤ من الكمال. وليس في الكلام ما ترى فيه الفضيلة رائعة مغرية على أتم ما يكون فتنة وجمالا, ويريك الرذيلة قبيحة شوهاء على أشد ما تكون قبحاً وبشاعة, مثل كلام الله الذي يعلم ما تكن الأنفس, وما تخفي الصدور. ولو أن هذه الإنسانية قد توفقت إلى أن نتربى بتربية القرآن, وتتأدب بآدابه, لاستراحت مما هي فيه من إثم وفساد, ومما تعانيه من شرور وموبقات.
ثم ذكرت أهم عدة آيات كريمة تنطق بالحق, وتشهد بما أقول ثم قلت: هل لكم يا سادتي أن تقرؤا بأنفسكم بعض سور من القرآن فتعلموا يقينا أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم, وأنه تنزيل العزيز الحكيم, لا من عمل الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
ولو أن هذا القرآن كان من عند رسول الله, لكان حقيقا أن ينسبه-صلى الله عليه وسلم- إلى نفسه, لا إلى الله.
وبسطت هذا الموضوع بسطا اقتنع به الحاضرون. وانتقلت منه إلى الأمية التي كانت شائعة يومئذ بين العرب أجمعين. واثبت لهم بالشواهد التاريخية التي لا تقبل مناقشة ولا جدالا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وبعد ذلك قلت: وهب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يعرف الحروف الهجائية العربية, ويقرؤها ويكتبها, فما هي هاته الحروف؟ هي بلا شك تلك الحروف التي كانت يومئذ في أول نشأتها، يلتبس فيها كل حرف بكل حرف, ولا يتبين فيها شيء من شيء. ولا يمكن بحال أن تكون حروفا نكتب بها كتب, وتدون بها دواوين.
وأين هذه (الكتب القديمة) التي يزعمون أنها كانت مكتوبة بالحروف العربية, ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها ويدرسها؟ .. وما هي أسماء هذه الكتب؟ ومن هم الذين ألفوها؟ وهل كانت في بلاد العرب جامعات علمية تدرس باللغة العربية, وتكتب بالحروف العربية, حتى يمكن أن يقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم فيها الكتاب والحكمة. وهاته العلوم التي ذكرها الله في القرآن العظيم؟ ويح هؤلاء القوم المستعمرون! يقولون إن الأبجدية العربية على حالتها الحاضرة اليوم قاصرة لا تفي بالمراد, ولا تماشي علوم العصر ولا آدابه ثم يزعمون أن العرب في الجاهلية كانوا أولي علم وفلسفة وكتب قديمة مكتوبة بالحروف العربية التي وفت لهم بكل ما كان عندهم من حكمة وأدب! فهل معنى هذا أن الأبجدية العربية كانت في الجاهلية أرقى منها في هذا العهد الأخير؟! "قاتلهم الله أنى يؤفكون".
ولو كنت أعجب من شيء في هذه الحياة لعجبت من أمركم أنتم أيها الإخوان, انتم مسلمون, وآباؤكم مسلمون, لا ترضون إذا وصفتم بغير الإسلام, ومع ذلكم فإنكم لا تعرفون شيئا عن الإسلام إلا ما جاءكم عن طريق أعدائه, أفمن أعداء الإسلام تتعلمون الإسلام؟
¥