تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

واستحالت هذه الفكرة في عقول بعض المخلصين الاسبان من فكرة محلية داخلية إلى فكرة فسيحة فيها شيء كثير من السعة والطموح. ففي أدباء الاسبان اليوم من يتمنى لو ترجع الخلافة الإسلامية إلى الأندلس وتكون قرطبة هي عاصمة الإسلام كما كانت في القديم على عهد الخلفاء الأمويين قالوا وتخفق راية هذه الخلافة الإسلامية الجديدة على بلاد الجزائر وتونس والمغرب الأقصى والأندلس وسائر بلاد الاسبان على أن تكون هذه البلاد ولايات متحدة: الناس فيها سواء لا حاكم ولا محكوم ولا غالب ولا مغلوب ولا ظالم ولا مظلوم وقد تظهر هذه الفكرة على غاية من الغرابة والشذوذ، ولكنها على كل حال دليل قاطع على أن الاسبان أصبحوا اليوم لا مستعمرين يبغضون العرب ويحملون لهم في صدورهم الضغائن والأحقاد، ولا مسيحيين يتعصبون من الإسلام ويتمنون له الفناء والزوال، ويعملون على أن يلحقوا به الشر والأذى.

وإذا نظرنا إلى سياسة اسبانيا الحديثة في منطقة حمايتها بالمغرب الأقصى ومعاملتها للمسلمين هنالك، وجب علينا أن نعترف بالحقيقة الواقعة وأن نعلن على رؤؤس الأشهاد أن جمهورية اسبانيا الفتاة تعامل المغاربة معاملة حسنة، فلا فرق عندها بين مغربي وبين اسباني في حق من الحقوق، وهي تعتبر العرب أبناءها لا رعاياها فلا يخاف العربي هنالك ظلماً ولا هضما.

والأوقاف الإسلامية، والشؤون الدينية مثلاً هي كلها في أيدي أهاليها العرب المغاربة المسلمين لا تتداخل فيها الحكومة بوجه من الوجوه. وللمسلمين هنالك أن ينشئوا المدارس العربية الإسلامية الحرة. وفي هذا الصيف الماضي قد اجتمع أعيان مدينة تطوان وأهل الفضل والمرؤة فيها وأسسوا مدرسة عربية إسلامية حرة، كثيرة الطبقات والأقسام، وجعلوها نظامية على أحدث طراز، ومع ذلك لم يلقوا من الحكومة الاسبانية معاكسة ولا اعتراضا. ولا تمنع الحكومة هنالك عربياً من رعاياها أن ينشيء جريدة عربية كيفما كان مذهبها السياسي، ولا سنت قانوناً خاصاً قيدت به ثمت صحافة العرب دون صحافة الاسبان، بل قانون المطبوعات واحد يشمل الصحافة الاسبانية والصحافة العربية على السواء. وآية ذلك أننا لم نسمع إلى الآن أن حكومة اسبانيا قد منعت جريدة عربية- أيا كانت- من دخول منطقة حمايتها بالمغرب الأقصى وهذا لم تفعله اسبانيا حتى في أيام الحرب الريفية حينما كانت الجرائد في جميع الأقطار تنتصر للمجاهد الكبير الأمير محمد ابن عبد الكريم.

وكان كاتب الدهر أمير الجهاد وأمير البيان عطوفة الأمير شكيب أرسلان زار بلاد الأندلس وزار المنطقة المغربية التي تحت حماية اسبانيا. فأقام له إخواننا العرب هنالك حفلات تكريم. ولم يعترض الاسبان على شيء من ذلك وكانت يومئذ صحافة الاستعمار الفرنسي قد هاجمت عطوفة الأمير بالأكاذيب والمفتريات وعاتبت الاسبان عتاباً مراً على سماحهم له بالإقامة في المنطقة الاسبانية، وأغرتهم بإبعاده كما أبعدته حكومة مراكش الفرنسية من طنجة وهي منطقة دولية بين كثير من الدول.

ولما انعقد المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف وأراد أن يمثل المغرب الاسباني فيه عظيم من عظماء المسلمين هنالك لم تمانع حكومة الاسبان في ذلك ولا اعترضت عليه، بل سمعنا أنها انتدبته رسمياً ليحضر هذا المؤتمر.

وبالجملة فحكومة اسبانيا الجمهورية لم تعمل عملاً استعمارياً تريد به محق العروبة أو الإسلام ولا حاولت أن تقطع تلك الأمة الإسلامية التي تحت حمايتها من جسد الإسلام ولا أن تجعلها في عزلة عن العالم، ولا أن تخفيها عن الأنظار، فالمغاربة الذين هم تحت حمايتها هم اليوم في عيشة راضية يتمتعون بما لم يتمتع به أي بلد آخر من بلاد الإسلام قد كتب عليه أن تستعمره دولة غربية باسم حماية أو انتداب، ولو أن اسبانيا كانت غربية لكانت قاسية ظالمة كأخواتها الغربيات، ولكن رحمتها وعدالتها من (شرقيتها) المتسامحة الوديعة، ومن آثار العروبة فيها.

(حاشية) - نشرنا هذا الفصل منذ أربعة عشر شهراً لم تستطع اسبانيا الحديثة في أثنائها أن تنفذ هذا المشروع، لأنها منهمكة في إطفاء الفتن التي لا تزال تقوم في بلادها من حين إلى حين، ولأن بعض الدول الاستعمارية التي يسوؤها أن ترى العرب والاسبان يتصافحون، قد وضعت العراقيل في سبيل هذا المشروع، وهي وإن لم تستطع إحباطه فقد استطاعت أن تؤخره إلى أجل غير مسمى. على أن جماعة (البيت الإسلامي) في مدريد ورجال (الجمعية الاسبانية- الإسلامية) التي ينوب رئيسها صاحب العطوفة الأمير شكيب أرسلان لا يزالون يبذلون الجهود المخلصة والمساعي المشكورة في هذا السبيل. وإذا كان العرب والمسلمون لا يريدون أن يمدوا أيديهم بالإعانة إلى جماعة هذا البيت، ولا إلى رجال هذه الجمعية فإنه ستضيع من أيدينا فرصة ثمينة قد نندم عليها ندما شديداً وقد لا تسنح لنا مرة أخرى.

ـــــــــــ

يتبع بإذن الله تعالى في الحلقة التالية بعنوان:" كيف يغوون شبابنا؟ " ...

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير