قال الراوي: ولا أكتمكم، أننا كنا نحب هذا المقدم اليهودي، ونحب هؤلاء اليهود، الذين هم إخواننا من الشيخ، أكثر مما نحب أي مسلم من المسلمين، الذين يتبعون الطرق الأخرى، وكما أن اليهود يسمون غيرهم-[الكوييم]- فإننا نحن أيضاً نسمي غيرنا من المسلمين باسم القراميط.
وبالجملة، فلم نكن نعرف الحب في الله، والبغض في الله، وإنما كنا نعرف الحب في الشيخ والبغض في الشيخ.
[أوراد مبتدعة بكيفيات مخترعة]
على أن الطرق الأخرى يحمل أتباعها لنا من الضغينة والحقد أكبر مما يحمل أتباع طريقتنا، فقد جربت ذات يوم أن أتودد إلى أهل طريقة، فرفضوا ودادي، وذلك أن جلست معهم في حلقة لهم عقدوها لتلاوة أورادهم، وكان من عادتهم أن يغمضوا أعينهم عند تلاوة هذه الأوراد، وكان من عادتنا نحن أن نفتح أعيننا، وأن لا نغمضها عند قراءة الأوراد، وما هي إلا أن عرفوا أنني لا أغمض عيني حتى طردوني، وقالوا لي: أنت لست من طريقتنا!!
[همة الشيخ، تغدق علينا الأرزاق أم تورث غضب الخلاق!!؟]
وكنت أعتقد أن الرجل منا إذا بسط الله له الرزق، فربحت تجارته أو صلحت ذريته أو بارك الله له في عمل من أعماله، فليس معنى ذلك أن العناية الربانية قد حفت به، بل معنى ذلك أن معه همة الشيخ!! ولا نطلب من أحدنا أن يحسن ظنه بالله بل نطلب منه أن يحسن ظنه بالشيخ!.
[توحيد الأسياد أم توحيد رب العباد!!؟]
ولا نقول من مات وآخر كلمة قالها"لا إله إلا الله"دخل الجنة، بل نقول: من مات وهو يلهج باسم الشيخ دخل الجنة دون حساب ولا عقاب، وقد مات رجل منا، فجاء أقاربه إلى سيدنا رئيس الزاوية المركزية، وقالوا له: لقد بقي اسم الشيخ سيدي فلان (جدك)، في فم المرحوم إلى النفس الأخير من حياته، فقال سيدنا: مات شهيداً، وهو اليوم في أعلى عليين.
[الجاهل الغني أرفع منزلة من العالم التقي!!]
وكان لطريقتنا مقدم في إحدى النواحي قد توفي إلى رحمة الله، وأراد شيخنا صاحب الزاوية أن يسمي لطريقتنا مقدماً آخر في تلك الناحية، ودعانا إليه نحن خواصه، يستشيرنا فيمن يصلح أن يخلف"المقدم"المرحوم في مهمته، فدللته أنا على طالب علم فقيه من أهل تلك الناحية، كلمته عندهم مسموعة، وله عليهم نفوذ، فقال سيدنا: إياكم من الفقهاء، وإياكم من طلب الوقت، فإنهم زنادقة المقت، لا"نية لهم"،وهل رأيتم تيساً يدر و"يحلب"؟ قلنا: اللهم لا، قال: كذلكم الطالب، "لا يزور"ولا خير فيه.
وتكلم آخر فدله على رجل هو من عباد الله الصالحين المتقين، لم يعرف أهل ناحيته أمتن منه ديناً، ولا أصلح منه حالاً، فقال لنا سيدنا: وهذا الرجل أيضاً لا يصلح لنا، قلنا: ولماذا؟ قال: لأنه من الذين لا يجدون ما ينفقون، ونحن في حاجة إلى صاحب ثروة ويسار، إذا نزلنا في ضيافته، أكرمنا وأطعمنا وسقانا مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وقد تكون معنا حاشية وخدم وننزل عنده على الرحب والسعة، وإذا كنا نريد الزيارة أجزل لنا الهدية والعطاء ... فقلت في نفسي: إن سيدنا في الحقيقة يريد صاحب فندق (هوتيل) يقيم فيه مجاناً، لا يدفع أجرة الخدمة والمبيت، وله ثمن الطعام والشراب، وما أظنه يريد مقدماً للطريق!!
وأرسلنا سيدنا إلى صاحب ثروة عظيمة في تلك الناحية، وأخبرناه أن سيدنا قد أنعم عليه فجعله مقدماً، وكان رجلاً قتل الدهر تجربة وخبراً، فأبى وامتنع من القبول، فطلبنا منه أن يقبلها لابنه فقال: ويحكم يا هؤلاء!! وكيف أرضى لابني ما لا أرضاه لنفسي؟ ودعا بابنه وقال له ونحن نسمع: يا بني هل تريد أن تكون خادماً؟ قال: لا، قال: إذا أنا أفضيت إلى عملي فإياك أن تكون"مقدماً"لأية طريقة من هذه الطرق، فإنك إذا فعلت، نزل عليك الشيخ بخيله ورجله، فإذا دارك فندق"مجاني"، وإذا أنت وعيالك وأولادك تقومون على خدمته وخدمة حاشيته، ثم إذا ربحت وأفلحت، قال الناس: لقد أفلح ببركة الشيخ، وإذا أصابك مكروه قالوا:"دقه" الشيخ، وظنوا بك الظنون، وإذا أنت رضيت أن تكون مقدماً، فاعلم أن الشيخ لا يكفيه منك يومئذ قليل ولا كثير، فخير لك أن تترك هذا الأمر للذين قد يتعايشون عليه.
[البراق الصوفي: بين الاحتيال والإضلال]
ورجعنا إلى الزاوية نخبر"سيدنا"بما جرى، وكنا مساء الجمعة، فلم يقابلنا لسفره إلى مكة، وهو يسافر إليها يوم الجمعة من كل أسبوع، ولا يراه "الزوار"إلا يوم السبت، فانتظرنا إلى صباح السبت، وأخبرناه بما وقع، فتأسف واغتم كثيراً.
¥