تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هم أولئك الذين على مذهب أهل السنة والجماعة (السلف) يمقتون المعتزلة والخوارج وكل فرقة ليست على مشرب السلف الصالح , ولا همَّ لعلمائهم إلا البحث في الأصول وفي الفروع , ولا لعامتهم إلا السعي وراء الاكتساب والاتجار , وهم لا يأكلون لحم أخٍ بغيبةٍ ولا يمشون بنميمةٍ ولا تبدُرُ على ألسنتهم بوادرُ القذف ولا يُسلسون لأنفسهم العنان فينهمكون في الفحش والموبقات , وهم ليسوا بثعالب روّاغة يمكرون أو يخدعون , وهم أحرارٌ جادُّون في طلبِ العلمِ أينما حلّوا وحيثما وُجِدُوا. وإنَّكَ لا تراهم مرةً لاعبين أو عابثين , وهم يفِرُّون من البدع فرارَهم من المجذوم.

وبالجملة فماذا يُقال عن إخلاص قومٍ عُرِفوا بالتمسك بالإسلام , وهم في مقدمة كل الطوائف إيماناً وإيقاناً. ويرحم اللهُ أحدَ الأفاضل حيث قال: (لو تجسم الإسلام بإنسانٍ لكان أهلُ نجد رأسه). هذا ما نعرفه عنهم كما دلَّتنا عليهم مصنفاتُهم التي ألَّفَها أهلُ الرأي الراجح والعلم الصحيح منهم , وكما رأينا ذلك في غير واحدٍ من التواريخ التي تبين سيرتهم أحسن تبيان كتاريخ (الجبرتي) وغيره.

وإذا لم تكن هذه الطائفة كما ذكرنا فليأتنا المعاندون ببرهانٍ من كتبهم يُناقض ما نسطره هنا , أو فليدلوا بحجةٍ تُخالفُ ما نقوله إن كانوا من الصادقين.

ليت شعري بمَ يُجيب ذلك المعاند الذي يرميهم بأنواع الكفر والضلال إذا قلت بأنهم يُقيمون الصلوات الخمس بأوقاتها , ويؤدون زكاة أموالهم بأنصابها , وأنهم يصومون شهر رمضان , ويزورون البيت الحرام على الطريقة المأثورة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

ماذا يكون جوابي إذا رفعتُ عقيرتي قائلاً: إنهم فئةٌ يكدون ويكدحون في جهادِ هذه الحياة , ويفارقون الأهل والأوطان ابتغاء النفع والانتفاع والكسب من الحلال , فيتجرون بالعقود المشروعة , ولا يتحيلون لشبهاتها , بل ولا يرضون أن يعيشوا عيشة الأذِّلاء الانذال كلَّاً على غيرهم.

نحن نسألُ الذي يرميهم بشبهةٍ في دينهم: هل رأى واحداً منهم في حانات الخمور ثملاً معربداً , أو بين أذرع المومسات ضاحكاً مستهتراً؟! وهل يقدر أن يثبت أنهم أكلوا أموال الناس بالباطل , واختلسوا المدارس بأموالها وأوقافها.

ولقد عَلِمَ قيامَهم بشعائر الدين في حلِّهم وترحالهم , وتصلُّبَهم في ذلك والتورَّعَ في معاملاتهم كلُّ مَنْ خبرَهم , كما عرفَ ذلك منهم معاملوهم من التجار في كل قطر ومصر.

بيد أنه اُنتقد عليهم مسائلُ أُشتهرت ويرى الجمهور فيها نظراً وقد كثر عليهم الردود لأجلها , وربما كان في تلك الردود شية من حق ولكن على الباحث أن ينصف , والحق يقال أن زعيمهم محمد بن عبد الوهاب لم يأتِ بشئٍ من عنده وإنما دعا الى نصوصٍ ظفرَ بها وعثر عليها وهي لمن تقدَّمَهُ من الأئمةِ المشاهير ممن سبقوا على عصره بنحو ستمائة سنة. ولا ريب أن من تقدَّمَهُ كانوا أئمةً مجتهدين عرفهم التاريخ , والمجتهدُ مأجور باتفاق علماء المذاهب على الإطلاق , ولا يُنكرُ على إمامٍ مجتهدٍ على كل حال. وإنها لكلمةٌ ذهبيةٌ فاه بها الإمامُ مالك رضي الله عنه قائلاً: ما منا إلا من رَدَّ أو رُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر (يعني النبي صلى الله عليه وسلم): والحق ضالةُ كلُّ أحدٍ المنشودةُ , تُؤخذُ من أي وعاءٍ خرجت وعن أيٍ صدرٍ صدرَت.

وما على الرَّاد إلا أن ينبذ الهوى والعصبية , وأن يقف عند حدود أدب الجدل والمناظرة وينظر في أقوال محاوره نظر المنصف الحكيم.

وكما يجب أن يُراجع الردود يجب عليه أن ينظر في ردود الردود , ليزدادَ بصيرةً وعلماً , وينجلي له الحقُّ تمام الانجلاء.

ولئن كان يؤثر عنهم تنطعٌ وغلوٌ في بعضِ المسائل فما أحدٌ إلا وعُدَّت عليه هفواتٌ ما خلا المعصومين , والأصل الأصيل هو الاعتصام بأصول الايمان وقواعد الإيقان. وعلى فرض تنطعهم وغلوهم فهم لم ينفردوا بذلك , إذ لم يخلُ مذهبٌ من متنطعين غالين يرون ما هم عليه صواباً وما لغيرهم خطأً , إلا أن كل متنطع في أي مذهبٍ كان أول مَنْ يبرأُ منه المنصفون المعتدلون من أهلِ مذهبه , فأحرِ بغيرهم.

ويكفي مريدَ الحقِّ وطالبَ الإنصافِ في شأن الوهابيةِ ما كتبه شيخُ الفقهاءِ الحنفيةِ بمصر المؤرخُ الإمامُ الجبرتي , فليتتبعه المنصفُ بدقةٍ وليتأمل ما يقضي به العقلاء وما يحكم به المنصفون. وحرامٌ على مَنْ لم يُراجع تاريخ الجبرتي في شأنهم أن يبهتهم رجماً بالغيب , وهو مطبوعٌ ومتداولٌ يُمكن أن يُستقرأ هذا البحث منه في نحو يومٍ , فليُعمل الطالبُ همتَه ولينزع عنه عصبيتَه ليرى صِدْقَ ذلك الفاضل (لو تجسم الإسلام بانسان ...... الخ ...... ) ويعلمَ أن بعض الظن إثم.

ما كان الجبرتي وهابياً ولا نجدياً ولا حنبلياً وإنما كان حنفياً بل مفتي الحنفية في مصر في عهد محمد علي باشا الذي حاربهم (أي حارب الوهابية). . وما منع الجبرتي وهو مفتي عاصمة مصر تدر عليه مرتباتُ محمد علي أن يتكلم بالحقِّ في الوهابية ومحمد علي يُحاربهم , ما احتفظ عليه بذلك ولا كاده ولا أضمر له السوء , ولا رمته علماءُ الأزهر بالوهبنة مع انتشار كتابه والشغف بنسخه وعُدَّ الظفرُ به من أعظم الكنوز العلمية التي تتزين بها المكاتب. لم ذلك ياترى؟ .... لأن محمد علي لايرى أن حربهم إلا لأمرٍ سياسي وهو الاستعمار , وأن لا حربَ في المسائل الدينية , لأن العلماء في الازهر أئمةٌ فضلاءُ يذعنون للحق وينقادون له , وهم يرون أمثال ما ينشره الجبرتي عنهم حقائق لا تشوبها شائبة ولا إيهام.

وبعد فلسنا نقول ذلك تشيعاً او تحزباً فإنَّ ذلك من شأن المتعصبين الجامدين , بل دلالة على مكان المدح , وحذراً من بخسِ الناسِ أشياءَهم , واستبراءً للدين من قذف البرئ وبهت المؤمنين , وفي ذلك عبرةٌ لقوم يذَّكرون.


هوامش:

(*) نشرت في المقتطف في الجزء الثالث من المجلد الرابع والثلاثين ص 223 - 227

لتحميل المقال بصيغة وورد: اضغط هنا ( http://alhomiani.googlepages.com/Najdion.doc)

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير