الثاني: أن الاحتفال بأيام الاستقلال والأيام الوطنية ونحوها هو جزء من المشروع الكبير للوطنية المنبثقة من الفكر العلماني الغربي، وليس مجرد عادة اعتادها الغربيون كما يظن البعض، ثم نقلها عنهم المسلمون كسائر العادات كما جاء في تقريرك لجواز اليوم الوطني.
والمطلع على التاريخ النصراني وما جرى فيه من صراعات دينية دموية بين الأرثوذكس والكاثوليك قديما، ثم بين الكاثوليك والبروتستانت حديثا، مع إلمامه بالواقع الأوربي إبان ما يسمى بعصر التنوير ثم الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات في سائر أوربا على الكنيسة يعلم أن الاتجاهات الوطنية في أوربا نشأت لسببين رئيسين:
الأول: القضاء على الخلاف الديني بين الطوائف النصرانية، وكان شعارهم (الدين لله والوطن للجميع) أو (إذا كان الدين يفرقنا فالوطن يجمعنا).
الثاني: إيجاد بديل للانتماء الديني الذي أجمعت أوربة في البداية على نبذه تماما، ثم تراجع مفكروها إلى فصله عن الحياة مع الاعتراف به شأنا روحيا فرديا، وكان هذا البديل للانتماء الديني الذي يوالي فيه النصراني ويعادي فيه هو الوطن والتراب.
وأول من نادى بالوطنية إيديولوجية يتخذها الناس بديلا عن أديانهم في بلاد الشرق الإسلامي هو النصراني بطرس البستاني في بلاد الشام، وأصدر مجلات تدعو لذلك، ثم تحمس لها النصارى والدروز والنصيريون وغيرهم، ونشروها في كافة بلاد المسلمين.
ومن مراسيم هذه الوطنية بمفهومها العلماني أعياد الاستقلال والوطن والجلوس على العرش وغيرها.
أرأيت يا شيخ عبد العزيز لو أن هذه الوطنية وما يتبعها من أعياد مجرد عادة استُجلبت من الغرب، ولا تحمل مضامين فكرية تتعارض مع عقيدتنا أيستميت العلمانيون في البلاد الإسلامية -وبالأخص في بلادنا- في الإلحاح عليها، وتخوين من لا يقول بقولهم؟
ولا سيما أن العادات الغربية كثيرة ولا يلح العلمانيون منها إلا على ما يحمل مضامين فكرية تُقصي ديننا وعقيدتنا؛ لإحلال أفكارهم محلها.
وكثيرا ما كتب الليبراليون في الصحف عن مفهوم الوطنية الذي يريدونه، وملخصه (أن الدين لله والوطن للجميع) وصرحوا بهذا الشعار الفكري العلماني، وكانوا -ولا يزالون- يعيبون على الدولة وعلى الجمعيات الخيرية اهتمامها بشئون المسلمين خارج المملكة، ويصرحون دائما بأننا لسنا معنيين بالآخرين، ويجب أن ننكفئ على أنفسنا ووطننا فحسب.
وراجع الصحف لما أُقرت إجازة اليوم الوطني تجد أن مقالاتهم عن الوطنية واليوم الوطني لها مدلول فكري علماني مستمد من الغرب (عقيدة) يصرحون به، ويدعون إليه، ويحاربون من انتقده، ويرمونه بأنه عدو للوطن.
ولا يستطيع أحد أن يدعي أن اليوم الوطني ينفصل عن المشروع العلماني للوطنية؛ لأنه جزء منه، ورافد من روافده؛ لإحلال الانتماء للوطن بديلا عن الانتماء للدين كما حصل في أوربا، سواء استطاع العلمانيون الوصول لهذه الغاية أم لم يستطيعوا.
فإن زعموا أنهم يقصدون بالوطنية الاهتمام بمنشآت الوطن ومنجزاته وعدم الإفساد فيه كما حاول جمع من الإسلاميين التلفيق والموائمة بين ديننا وبين هذا المصطلح العلماني.
قلنا لهم: إن ديننا يأمرنا بذلك قبل أن تنشأ الوطنية في أوربا، بل إن ديننا ينهانا عن الإفساد حتى في غير وطننا، بل حتى في أوطان الكفار، فلم إذن تدعوننا لشيء موجود في ديننا؟!
وإن قالوا: نقصد بالوطنية اللُحمة بين القيادة والشعب.
قلنا: في ديننا بيعة شرعية لمن ولاه الله تعالى أمرنا نتخذها طاعة ندين لله تعالى بها في السر والعلن والعسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة منا، وهي أعظم وأوثق مما تزعمونه من وطنية وانتماء إليها، فلم يبق إلا المعنى العلماني للوطنية وهو مقصودهم.
وقد رأينا كيف أن الذين هتفوا بالوطنية عشرات السنوات في البلاد التي وطئها الاحتلال هم أول من سهل للمحتلين وطء أوطانهم واحتلالها، وأن الذين اتُهموا بالعداء للوطنية من الإسلاميين هم الذين هبوا للدفاع عن أوطانهم وأمتهم.
ومعلوم أن مثل فتواك هذه سيطير فرحا بها العلمانيون؛ لأنها لبنة من لبنات ترسيخ مشروعهم الذي يدعون الناس إليه (الدين لله والوطن للجميع).
الثالث: ذكرت يا شيخ أنك ترى تحريم عيد الحب لسببين:
الأول: أن له أصلاً دينيا عند أولئك الكفار الذين يحتفلون به.
¥