وفي هذا كله ما يبطل قولكم إنه إذا نزل يخلوا منه العرش، فإن ذلك يلزم منه أمور ممتنعة، منها إحاطة المخلوق بالخالق، وأن لا يكون الخالق أكبر من كل شيء ولا أعظم من كل شيء وكل ذلك محال.
وقالوا: وأما نحن فنقول لا يخلو منه العرش إذا نزل، بل هو فوق عرشه يقرب من خلقه كيف شاء وإن كنا قد نقول إنه غير موصوف بالاستواء حال النزول، فإن الاستواء علو خاص،وهو أمر معلوم بالسمع.
وأما مطلق العلو فإنه معلوم بالعقل، وهو من لوازم ذاته، فقربه إلى خلقه حال نزوله لا ينافي مطلق علوه على عرشه، قالوا: وما ذكره مخالفنا من أنا ننفي معنى النزول بالكلية أو نفسره بأمر لا يعقل، باطل، بل النزول عندنا أمر معلوم معقول غير مجهول، وهو قرب الرب تبارك وتعالى من خلقه كيف يشاء، وقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ((ينزل ربنا)) كقوله تعالى {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} (الأعراف 143) وقد ثبت أن الذي تجلى منه مثل الخنصر، أو مثل طرف الخنصر مع إضافة التجلي إليه، فكذلك النزول من غير فوق، ولا يلزمنا على هذا ما لزمكم من إحاطة المخلوق بالخالق وكونه غير علي عظيم.
وقد ثبت أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية، مع العلم بأن صورته التي خلق عليها لم تزل ولم تعدم في تلك الحال، بل تمثل له بعضها في صورة دحية، فخاطبه، ولبس في الشرع ولا في العقل ما ينافي ذلك.
قالت الطائفة الأخرى القائلة بالخلو: الواجب علينا كلنا اتباع النصوص كلها والجمع بينها وأن لا نضرب بعضها ببعض، ولا يخفى أن جميع ما ورد من نصوص العظمة نحن به مصدقون، وإليه منقادون وبه موقنون، وما ذكرتموه من العلو والعظمة لا ينافي حقيقة النزول، ونحن لا نمثل نزول الرب تبارك وتعالى بنزول المخلوق ولا استواءه باستوائه، وكذلك سائر الصفات نعوذ بالله من التمثيل والتعطيل.
لكن إثبات القدر المشترك لا بد منه كما في الوجود، وباقي الصفات، وإلا لزم التعطيل المحض، فنحن نثبت النزول على وجه يليق بجلال الله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ونقول قد أخبر (به) الصادق وما أخبر به فهو عين الحق، وما لزم الحق فهو حق، ونقول: أن النزول الحقيقي يستلزم ما ذكرناه وما استروح إليه مخالفتنا من أن المراد نزول بعض الذات كما في قوله {فلما تجلى ربه للجبل} (الأعراف 143) والمراد تجلي البعض أمر غير معقول منه، والفرق بين الموضوعين ظاهر والدليل هناك دل على إرادة البعض فلا يلزم من الحمل على إرادة البعض في مكان بديل الحمل على إرادة البعض في مكان آخر من غير دليل.
وما ذكر من أمر جبير وتمثل بعضه للنبي- صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية، أمر لم يدل على عقل ولا شرع، فلا يجوز المصير إليه بمجرد الرأي،ـ بل الذي كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية هو جبريل حقيقة، ولعظيم مرتبته وعلو منزلته أقدره الله تعالى على أن يتحول من صورة إلى صورة، ومن حال إلى حال، فيرى مرة كبيراً، ومرة صغيراً كما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى في السموات والأرض.
وقد دل العقل والنقل على قيام الأفعال الاختيارية به فهو الفاعل المختار بفعل ما يشاء ويختار، ذو القدرة التامة والحكمة البالغة والكمال المطلق، وقد ثبت في الصحيح أنه يتحول من صورة إلى صورة وثبت أنه يتبدى لهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة ثم يعود في الصورة التي رأوه فيها أول مرة.
وهذا كله حق لأن الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى قد أخبر به،وليس في العقل ما ينفيه، بل جميع ما أمر به صاحب الشرع يوافقه العقل الصحيح ويؤيده وينصره ولا يخالفه أصلاً.
وإذا عرف هذا فقد يقال ما ورد من الأدلة الدالة على العظمة وكبر الذات، ليس بينها وبين ما قيل إنه يعارضها منافاة ولا معارضة، بل جميع ذلك حق والجمع بين ذلك كله سهل يسير بعد العلم بإثبات الأفعال الاختيارية،وأن الله هو الفعال لما يريد وهو الفاعل المختار يفعل ما يشاء ويختار لا إله غيره ولا رب سواه.
وقالت طائفة ثالثة: نحن لا نوافق الطائفة الأولى ولا الثانية، بل نقول:ينزل كيف يشاء غير مثبتين للخلو ولا نافعين له بل مقتصرين على ما جاء في الحديث سالكين في ذلك طريق السلف الصالح.
وقد روى (أبو) الشيخ عن إسحاق بن راهويه، قال: سألني ابن طاهر عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني في النزول، فقلت له: النزول بلا كيف، وروى الأوزاعي عن الزهري ومكحول أنهما قالا: امضوا الأحاديث على ما جاءت، وقال الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد وغيرهم من الأئمة: أمروا الأحاديث كما جاءت بلا كيف، ولبسط الكلام في هذا موضع آخر والله سبحانه وتعالى أعلم.
(انتهى)
¥