فكل ما يتقابل مع غيره تقابل سلب وإيجاب فهما نقيضان، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر كالحياة والممات، والذكورة والأنوثة وغيرهما فإذن ما تقدم هو خارق للعادة، لكن هل يتصور أن يقع خارق للعقل؟ نقول: لا ولا يمكن أن تأتي شرائع الله بما تحيله العقول، إنما تأتي بما تحار فيه العقول أججت نار عظيمة لو مر طير في أقصى الجو لخر مشوياً، فكيف يوضع خليل الله إبراهيم عليه الصلاة السلام في المنجنيق من مكان بعيد يقذف ويلقى في النار؟ وهو لو لم يلق في النار لتكسرت عظامه من أثر الإلقاء والرمي، وإنما وضعوه في المنجنيق لأنهم لا يستطيعون أن يقتربوا من النار لإلقائه فيها، فيلقى في النار فتكون برداً وسلاماً ولا تحرق النار إلا وثاقه، فكان مقيدا ثم صار مطلقا، فهذا يتصوره العقل ولا يحيله، وهذا ليس بأغرب من أننا خلقنا من ماء مهين، كما أن الله قادر على أن يخلق إنساناً من غير هذه القطرات التي هي من ماء مهين – كما خلق عيسى – فمن الذي يمنعه؟ لذا قال: (هو علي هين) فهذا خارق للعادة وليس خارق للعقل فليتنبه!!
ولا يمكن أن يقع شيء خارق للعادة وليس خارقاً للعقل فيه آفة – كما تقدم – يقول إن هذا مستحيل فنقول: الآفة في عقلك الهزيل، وليس هذا مستحيل، ولذلك قلنا خارق للعادة أي لم تجر العادة به فهو غريب، فكوننا خلقنا من هذا الماء غريب لكن جرب به العادة، وكوننا نتكلم بقطعة اللحم اللسان غريب لكن جرب به العادة، ولو أن أصبعك تكلمت لاعتبر الناس هذا خارقٌ للعادة، ولو أن الحصى سبحت كما سيأتينا في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حصىً تسبح كما يسبح اللسان فهذا غريب ما جرت به العادة فهو خارق للعادة، وهو في الحقيقة لا غرابة فيه بالنسبة لقدرة الله تعالى.
إذن خارق العادة ليس بخارق للعقل فلابد من التفريق بين خارق لعادة وخارق العقل، وخارق العقل هذا بين نقيضين، نفي نقيضين، جمع ضدين، فهذا لا يمكن أن يقع، ولذلك ما كانت معجزة نبي من الأنبياء أن يقول أجعلكم أحياءً وأمواتاً، موجودين ومعدومين؟ هذا مستحيل هذه سفسطة ولا يمكن أن تقع، ولكن معجزة نبي أنه يحيي الموتى، فهذا مستحيل أم ممكن؟ نقول: ممكن ميت يموت فيقول خذوا بقرة واذبحوها واضربوه ببعضها فيحيى بإذن الله (كذلك يحي الله الموتى)، فإحياء الميت خارق للعادة التي جعلها ا لله تتحكم فينا نحن وفيما عدا الله.
فجعل الله سنناً في هذه الحياة لا يستطيع أحد أن يخرج عنها، فإذا شاء الله جل وعلا أن يبطل هذه السنن، أفليس بقادر على ذلك؟ بلى.
فنقول: إبطال لتلك السنة، إيقاف لمفعولها، خرق للعادة إلى غير ذلك من العبارات وليس هذا بمستحيل، بل إن هذا دليل على قدرة الله الجليل سبحانه وتعالى.
وخوارق العادات كما ذكرنا ستة أقسام:
القسم الأول: الإرهاص
مأخوذ من الرهْص، وهو أساس الشيء، يقال إرهاص، أساس البيت القواعد التي يبني عليها هذه يقال في اللغة رهْص.
وهو: خارق للعادة يقع على يد من سيكون نبيا قبل نبوته.
وسميت إرهاصاً لأنها بمثابة التأسيس لما سيليه، وهو المعجزة والإخبار بنبوته، فيكون هذا بمثابة لفت ربنا لأذهان الناس وأنظارهم بأن هذا المخلوق الذي جرى على يديه إرهاصات سيكون له شأن في المستقبل القريب فترقبوا ذلك.
مثاله: شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كان عند حليمة، وسيأتينا هذا ضمن الآيات التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام عند الإسراء والمعراج في مبحث مستقل ونبين أن شق صدر النبي عليه الصلاة والسلام وقع أربع مرات.
مرة عند حليمة عندما كان عمره سنتان وثلاثة أشهر.
ومرة عندما كان عمره عشر سنين.
ومرة عندما كان في غار حراء وجاءه جبريل في أول نزوله عليه.
والمرة الرابعة في حادث الإسراء والمعراج.
وكل هذه المرات ثابتة صحيحة أتعرض لها إن شاء الله تعالى، فيشق صدره من ثغره بنحره إلى شعرته عليه الصلاة والسلام – وهو منبت العانة – ثم يخرج قلبه ويغسل بقَسْطٍ من ذهب بماء زمزم ثم يحشى إيماناً وحكمة ثم يلتأم صدره الشريف عليه صلوات الله وسلامه.
¥