والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات فصاروا متناقضين؛فإن إثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الأسماء المشتقة كأسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ,ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم.
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الأسماء وقالوا ليست أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء ,وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الأعراض قالوا وهذه تنفي عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فإنما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الأمور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره.
بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ومنهم من قال بل فعل الرب قديم أزلي وهو من صفاته الأزلية وهو قول قدماء الكلابية وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة لما وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل فكتبوا عقيدة اصطلحوا عليها وفيها إثبات الفعل القديم الأزلي وكان سبب ذلك أنهم كانوا كلابية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه المعين لازم لذاته أزلا وأبدا ...
والمقصود التنبيه على افتراق الأمة بسبب هذه الطريقة ولما عرف كثير من الناس باطن قول ابن كلاب وأنه يقول أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي وأن كلامه شيء واحد هو معنى آية الكرسي وآية الدين عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل فنفروا عنه وعرفوا أن هؤلاء يقولون أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه وكان ممن أنكر ذلك الكرامية وغير الكرامية كأصحاب أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي وطوائف فصار كثير من هؤلاء يقولون أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه لكن يراعى تلك الطريقة لاعتقاده صحتها فيقول إنه لم يكن في الأزل متكلما لأنه إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود حوادث لا تتناهى وأصل الطريقة أن هذا ممتنع فصار حقيقة قول هؤلاء إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فخالفوا قول السلف والأئمة انه لم يزل متكلما إذا شاء وبسط هذه الأمور له موضع آخر.
وقال رحمه الله: ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة وهؤلاء أول من عرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من الأعراض وقالوا الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها.
ثم إنهم تفرقوا عن هذا الأصل فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل فطرد إماما هذه الطريقة هذا الأصل وهما إمام الجهمية الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي.
ثم إن جهما قال إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنة والنار وأنه يعدم كل ما سوى الله كما كان ما سواه معدوما ,وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهمية وعدوه من كفرهم وقالوا إن الله تعالى يقول إن هذا لرزقنا ماله من نفاد سورة ص 54 وقال تعالى أكلها دائم وظلها سورة الرعد 35 إلى غير ذلك من النصوص الدالة على بقاء نعيم الجنة.
وأما أبو الهذيل فقال إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط فيمكن بقاء الجنة والنار لكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلا ولا شيء يحدث ولزمه على ذلك أن يثبت أجساما باقية دائمة خالية عن الحوادث فيلزم وجود أجسام بلا حوادث فينتقض الأصل الذي أصلوه وهو أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث.
¥