و الرازي و الآمدي وغيرهما من النظار يسلمون أن العلم بالصانع قد يحصل بالاضطرار وحينئذ فالعلم بكون الصانع قادرا معلوم بالاضطرار والعلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تحدي الخلق بمعارضتها وعجزوا عن ذلك معلوم بالاضطرار.
درء التعارض (1
53)
الوجه الثالث: أن يقال لمن ادعي من هؤلاء توقف العلم بالسمع علي مثل هذا النفي كقول من يقول منهم: إنا لا نعلم صدق الرسول حتى نعلم وجود الصانع وأنه قادر غني لا يفعل القبيح ولا نعلم ذلك حتى نعلم أنه ليس بجسم أو لا نعلم إثبات الصانع حتى نعلم حدوث العالم ولا نعلم ذلك إلا بحدوث الأجسام فلا يمكن أن يقبل من السمع ما يستلزم كونه جسما.
فيقال لهم: قد علم بالاضطرار من دين الرسول والنقل المتواتر أنه دعا الخلق إلي الإيمان بالله ورسوله ولم يدع الناس بهذه الطريق التي قلتم إنكم أثبتم بها حدوث العالم ونفي كونه جسما وآمن بالرسول من آمن به من المهاجرين والأنصار ودخل الناس في دين الله أفواجا ولم يدع أحدا منهم بهذه الطريق ولا ذكرها أحد منهم ولا ذكرت في القرآن ولا حديث الرسول ولا دعا بها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان الذين هم خير هذه الأمة وأفضلها علما وإيمانا وإنما ابتدعت هذه الطريق في الإسلام بعد المائة الأولي وانقراض عصر أكابر التابعين بل وأوساطهم فكيف يجوز أن يقال: إن تصديق الرسول موقوف عليها وأعلم الذي صدقوه وأفضلهم لم يدعوا بها ولا ذكروها ولا ذكرت لهم ولا نقلها أحد عنهم ولا تكلم بها أحد في عصرهم؟
الوجه الرابع: أن يقال: هذا القرآن والسنة المنقولة عن النبي صلي الله عليه وسلم متوا ترها وآحادها ليس فيه ذكر ما يدل علي هذه الطريق فضلا عن أن تكون نفس الطريق فيها؛ فليس في شيء من ذلك: أن البارئ لم يزل معطلا عن الفعل والكلام بمشيئته ثم حدث ما حدث بلا سبب حادث وليس فيه ذكر الجسم والتحيز والجهة لا بنفي ولا إثبات فكيف يكون الإيمان بالرسول مستلزما لذلك والرسول لم يخبر به ولا جعل الإيمان به موقوفا عليه؟
الوجه الخامس: أن هذه الطرق الثلاثة طريق حدوث الأجسام ـ مبنية علي امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع كونه لم يزل متكلما بمشيئته بل حقيقتها مبنية علي امتناع كونه لم يزل قادرا علي هذا وهذا ومعلوم أن أكثر العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ينازعون في هذا ويقولون: هذا قول باطل.
وأما القول بإمكان الأجسام فهو مبني علي أن الموصوف ممكن بناء علي أن المركب ممكن وعلي نفي الصفات وهي طريقة أحدثها ابن سينا وأمثاله وركبها من مذهب سلفهم ومذهب الجهمية وهي أضعف من التي قبلها من وجوه كثيرة
وطريقة إمكان صفات الأجسام مبنية علي تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يخالفون في ذلك وفضلاؤهم معترفون بفساد ذلك كما قد ذكرنا قول الأشعري و الرازي و الآمدي وغيرهم واعترافهم بفساد ذلك وبينا فساد ذلك بصريح المعقول.
فإذا كانت هذه الطرق فاسدة عند جمهور العقلاء بل فاسدة في نفس الأمر امتنع أن يكون العلم بالصانع موقوفا علي طريق فاسدة ولو قدر صحتها علم أن أكثر العقلاء عرفوا الله وصدقوا رسوله بغير هذه الطريق فلم يبق العلم بالسمع موقوفا علي صحتها فلا يكون القدح فيها قدحا في أصل السمع.
درء التعارض (1
57)
وقال شيخ الإسلام: والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها.
درء التعارض (5
64)
هذا ملخص ما انتهى إليه القلم من تسطير كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة ,وإن كانت هذه المسألة بتفصيلاتها تحتمل مجلدا.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والإعانة