والمتأمل في هذا الحديث سوف يكتشف بادي الرأي أن هذا الحديث يتكلم عن فضل التعبُّد بتسعة وتسعين اسمًا من أسماء الله الحسنى، وأنها لم تأت مجموعة في مكان واحد، لا في هذا الحديث ولا في غيره، ومن هنا فقد أدرك العلماء الحكمة من ذلك، وهي كالحكمة في عدم تعيين ليلة القدر ليجتهد الناس في عشر ليالٍ بدلاً من واحدة، وكذلك الأمر هنا: علم العلماء أن هذا الباب باب اجتهاد للعلماء يعملون فيه جهدهم.
وطبعا ليس المقصود بالاجتهاد أن يخترعوا لله أسماء وصفات، ولكن المقصود تتبع ما ذكر لله من أسماء في القرآن والسنة.
ومن هنا بحث العلماء مسألة الاشتقاق، وهي: هل يجب الالتزام بما ورد بصيغة الاسم، فيكون اسمًا لله وما ورد بصيغة الفعل فيكون صفة لا اسمًا؟ فمنهم من ذهب إلى عدم الاشتقاق، ومنهم من ذهب إلى جوازه.
فأما القائلون بعدم جواز الاشتقاق فمعظمهم لمَّا أراد أن يجمع الأسماء الحسنى لم يبلغ بها التسعة والتسعين، وهو ما أخذه عليهم القائلون بالاشتقاق؛ حيث علق الشرع فضلاً خاصًّا على التعبد لله بتسعة وتسعين اسمًا، مما يعني أن جمع هذا العدد من أسماء الله ممكن.
وأما الذين قالوا بجواز الاشتقاق فمنهم من ذهل عن أن الاشتقاق بمعنى تغيير صيغة الفعل إلى اسم الفاعل أو صيغة المبالغة مع إسناد ذلك إلى الفاعل وإن كانت صحيحة لغة، إلا أن هذا لا يتيح إغفال القيود الأخرى في الكلام، فوقع في خطأ بالغ، ومن أمثلة ذلك قوله -تعالى-: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة:15)، فلا يجوز لنا أن نقول: إن الله "يستهزئ" ونسكت، بل لا بد من تقييد ذلك بأنه يستهزئ بالمستهزئين، ولا يجوز بطبيعة الحال أن نقول: "إن الله مستهزئ" ونسكت، ولكن إن قيدناه بالمستهزئين فالراجح صحة ذلك.
وقد ورد ذلك المعنى بصيغة الفاعل في قوله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (النساء:142)، فالكلام ليس في الصيغة الصرفية بقدر ما هو في المعنى.
ولذلك اشتد نكير كثير من العلماء على من أورد "المستهزئ، والماكر، والزارع"، في أسماء الله، وإن بقي الاختلاف بينهم في الاشتقاق من الصفات الأخرى، بل معظم من تكلم في جمع الأسماء الحسنى استعمل الاشتقاق بصورة أو بأخرى ابتداءً من "الوليد بن مسلم" -رحمه الله- صاحب أشهر محاولة وأكثرها قبولاً لدى المؤلفين من بعده، ساعد في ذلك أنها رُويت مدرجة مع أصل الحديث، مما أغرى العلماء بشرحها، مع أن معظمهم قد نص على إدراجها، إلا أنهم وافقوه على اجتهاده في الأعم الأغلب منها.
وأما الذين ذهبوا إلى عدم جواز الاشتقاق فإنهم احتاجوا أيضًا إلى قيد مراعاة السياق الذي قال به المجوزون للاشتقاق؛ لورود الماكر والزارع في نصوص الشرع بصيغة اسم الفاعل.
هذا وقد تعاقب على محاولة جمع الأسماء الحسنى علماء اتفقوا على جملة من الأسماء، وهي التي وردت بصيغة الاسم متضمنة الكمال المطلق من كل وجه، ومنهم من اقتصر عليها وإن لم يجمع تسعة وتسعين اسمًا، ومنهم من ألحق بها أولى الأسماء بها مما ورد في الشرع، بل وإن لم يكن اسما في اصطلاح النحويين مثل "ذي الجلال والإكرام"، وهو من المعاني الثابتة جزمًا والتي أثنى الله على نفسه بها، والخلاف في تسميتها اسمًا ومن ثَمَّ إدخالها في عدد الأسماء المشار إليها في الحديث أمر وسع الأمة فيه الخلاف.
وكان يسع الدكتور "محمود عبد الرازق" أن يكون واحدًا من هؤلاء، وربما كان في بحثه إضافة ثرية في جمع الأسماء وشرحها وبيان صور التعبد بها، لاسيما وأنه لم يغب عنه -كما ذكر في مقدمة كتابه- جهود العلماء السابقين والمعاصرين واتفاقهم الضمني، بل الصريح على أن الأمر فيه مساحة من الاجتهاد.
إلا أن الدكتور أبى إلا أن يرفع الخلاف في المسألة، وهذا هو بيت الداء، ولا أظنه يخفى عليه أن المسائل الخلافية بين علماء الأمة المعتبرين لا يرفع الخلاف فيها إلا إجماع لاحق، لا بحث رجل مهما بلغت قوة هذا البحث وجزالته، ولا أدري هل رام الدكتور بحثًا يبلغ من القوة مبلغًا يقنع علماء الأمة قاطبة بأن هذه هي الأسماء المقصودة من الحديث؟!! هذا إذا قلنا بإمكان ضبط الإجماع في زماننا أصلاً، ثم إنه طالما لم يحصل الإجماع فستبقى المسألة خلافية.
¥