ولهذا يوجد كلام الرازي ونحوه من هؤلاء متناقضا في هذا الأصل، فإذا ناظروا القدرية استدلوا على أن القادر لا يرجح مقدورا إلا بمرجح، وإذا أرادوا إثبات حدوث العالم وردوا على الدهرية بنوا ذلك على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار، ولا يصح من العلة الموجبة، وادعوا الفرق بين الموجب بالذت وبين الفاعل بالاختيار في هذا الترجيح.
174
وهؤلاء غالبهم إذا ذكروا طريقتهم في حدوث الأجسام، بأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، ذكروا ذلك مسلما، كأنه بين، وإذا ذكروا مع ذلك أن الحوادث يجب تناهيها، جعلوا ذلك بمنزلة المسلم أو المقدمة الضرورية، تسوية بين النوع وأشخاصه، فيقولون مثلا إذا أثبتوا حدوث الأعراض وأن الجسم مستلزم لها: الحوادث لها أول ابتدئت به خلافا لابن الراوندي وغيره من الملحدة.
179
بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء، واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء، ولم يوافقه عليه الأنبياء، كان أقرب إلى أقوال / أهل الإلحاد، ولكن قد تشتبه على كثير من النظار فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلا عقليا، ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس، لا القول من أقوال الأنبياء بل قد يكون مناقضا لها، ولا يكون الدليل دليلا صحيحا في العقل بل فاسدا، فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما، ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع، وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء، وما فطر الله عليه العقلاء، فمن خالف هذين كان مخالفا للشرع والعقل، كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال.
182
وليس الاطراد [الصواب: المراد] بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها بل المراد انتهاء ...
185
وقول القائل من هؤلاء: إنه كان قادرا في الأزل على ما لم يزل، كلام متناقض، فإنه يقال لهم: حين كان قادرا: هل كان الفعل ممكنا؟ فلا بد أن يقولوا: لا، فإنه قولهم.
فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه قادر على الفعل.
189
الرازي مثلا إذا قرر في مثل نهاية العقول / وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث، واستوعبت [؟] ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة، ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه، مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري: اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته كما أنه واجب الوجود لذاته فهو واجب الوجود من جميع جهاته، وإذا كان كذلك وجب أن تدوم أفعاله بدوامه وبينا أيضا أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني وحللنا فيه الشكوك والشبه.
قال: وأيضا العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود يجب أن يكون دائم الوجود، فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود
195
فالمنازع لهم من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ونحوهم إما أن يقول: الفعل في الأزل ممتنع، كما قاله طوائف منهم، وإما أن يقول: هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد، فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد، إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال: الفعل في الأزل إما ممكن وإما / ممتنع، وإذا كان ممكنا، فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد، وإما أن لا يحصل.
201
قلت: هذا كقولهم: الحركة غير موجودة، والصوت غير موجود، والكلام غير موجود، وهذا لفظ مجمل، فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد، فهذا غير موجود، وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئا بعد شيء، فهذا كله موجود، وهو من حيث هو موجود شيئا بعد شيء لا موجود على سبيل الاقتران.
207
وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء، وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم، إذ هم ولله الحمد أكمل الناس عقلا وأتمهم إدراكا وأصحهم دينا وأشرفهم كتابا وأفضلهم نبيا وأحسنهم شريعة.
211
¥