الرب.
ومما استُحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة"، فَلْتُجْر آية الاستواء والمجيء، وقوله: (لما خلقتُ بيديّ) (ويبقى وجه ربك) وقوله: (تجري بأعيننا) وما صح من أخبار الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا. فهذا بيان ما يجب لله تعالى (22) ".
وفي كلام الجويني حق كبير، ولكن فيه أيضاً تناقض بادٍ وخلل مثير!! فقد قرر أن مذهب أئمة السلف هو إجراء الظواهر على مواردها، والانكفاف عن التأويل. وهذا هو الحق الذي أيده هو بما نقله عن مالك. وهو قوله رضي الله عنه: " الاستواء معلوم" فعلام يدل هذا؟ إنه لا يدل إلا على شيء واحد، هو أن معنى الاستواء مفهوم، معلوم معناه في لغة القرآن والحديث. ولو لم يكن هذا مراد مالك، لقال: لا أدري، أو لقال: الاستواء مجهول. ولكنه قال "معلوم". أما الذي حكم مالك بأنه مجهول فهو "الكيف" لا "المعنى".
أما التناقض: فقد وقع فيه " الجويني" بسبب زعمه أن السلف كانوا يفوضون "معاني" الصفات. فهذا الزعم الفطير يناقض ما ذكره من قبل، فصار كأنما يقول: مذهب السلف إجراء الظواهر على معانيها، ومذهب السلف تفويض معانيها!! وهذا يدلك، ويؤكد لك أن الجويني لم يُحسن التعبير عن مذهب السلف، رغم أنه استشهد بالكلمة القيمة المقتصدة التي قالها مالك، والتي ذهب فيها مذهب أستاذه الجليل "ربيعة بن عبدالرحمن (23) " فقد سئل ربيعة عن كيفية الاستواء، فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
وهكذا نرى إمام دار الهجرة، وأستاذه الجليل يؤكدان أن معنى الاستواء معلوم، أما "كيفية" استواء الله على عرشه، فهي المجهولة!! هذا، وإلا اتهمنا سلف هذه الأمة البررة الأخيار بأنهم كانوا لا يؤمنون في الأسماء والصفات الإلهية إلا بألفاظ خربة خاوية لا معنى لها، ولا دلالة!! وقلنا بأن صفات الله وأسماءه ما هي إلا ألفاظ خالية من كل مدلول أو مفهوم، فلا تثير في قلب العابد إلا الشعور بالعدم، والقلق العميق السحيق. ولا تتصل بالفكر إلا اتصال الرموز المبهمة والألغاز المحيرة، والأحجيات والطلسمات المقنعة بالغموض والإبهام!! أو بأنه سبحانه أبى لنا إلا الضلالة الأبدية والحيرة السرمدية، والتناحر المدمر حول أسمائه وصفاته!!.
وكيف نجرؤ على اتهام الله سبحانه بهذا، وبأنه يوجب علينا الإيمان بأن أسماءه وصفاته ألفاظ لا معنى لها، أو يوجب علينا ـ نحن المخلوقين ـ أن نضع لهذه الأسماء والصفات الإلهية المعاني التي نريد؛ لأنه عجز عن بيان معاني أسمائه وصفات؟!.
وهل يقدر المخلوق، ويعجز الخلاق، والمخلوق آية من آيات قدرته القاهرة؟.إن ما ذكره الجويني يُشعِرك بأنه كان ـ وهو يكتب لتأييد الحق ـ ينظر بإحدى عينيه إلى الماضي الذي صال فيه، وجال، مُدَّرِعاً بالتأويل، جاحداً بالاستواء، وبعقيدة السلف، ويرمق بالأخرى حاضره الذي انبثقت فيه إشراقة من النور في قلبه، ودوَّت في أعماقه زجرة هادية من الضمير تحثه على الإذعان الخالص للحق، وعلى أن يكفر بماضيه، وولائه للباطل فيه.
فحاول فيما كتبه في "العقيدة النظامية" أن يجعل منه شِفَّ رياء لماضيه، ولحاضره، حتى لا يثير أولئك الذين دانوا بكتبه الأولى، وانضووا تحت لوائه، وهتفوا باسمه، وصفقوا له!.
ثم؛ ليُسْكِن قليلاً من ثورة الحق التي يدوّي هديرها القوي في أعماقه!!
على أن في كلام "الجويني" حقائق جديرة بالتأمل والاعتبار:أولاها: أن خير طريقة هي طريقة السلف، لا طريقة الخلف، فالسلف هم صفوة هذه الأمة، فهم أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم -، والتابعون لهم بإحسان.
والثانية: وجوب الكف عن التأويل ـ أي الكف عن صرف الألفاظ عن ظواهرها.
الأخيرة: وجوب الاتباع، والكف عن الابتداع، وبهذه الحقائق التي ناصر الجويني فيها دعوة الحق، استحق أن يدعو المسلمون له بالرحمة والمغفرة، ولاسيما من أجل هذه النصيحة التي قال فيها: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به (24) ".
¥