"وأكثر سعي العالمين ضلال!! " إنه سعي "الخَلَفِيّة"، وسَعي ماضيه الذي تروعه أشباحه، ونفجعه منه ذكريات الإسراف في الجور على قيم الحق ومقدساته، وفي اتهام أولياء الحق المثبتين للصفات بأنهم يهود هذه الأمة!! كما كان ينعتهم من قبل.
"جمعنا فيه قيل وقالوا"!! هذا هو كل ما حصله من معرفة!! إنها أقوال تافهة لا تهدي، ولا تنزع بفكر إلى الاهتداء، وغثاء عفن من الخرافات، وإنها لترجمان صادق عن قيمة كل ما ألف من كتب، وعن قيمة معارف أولئك الذين يَعدُون على الحق، ويوغلون في العدوان عليه!!.
فهل يعتبر أولئك الذين مازالوا على تقديسهم وولائهم لكتب ألفها الرازي في ضلالته، ثم عاد ـ والندم يستحوذ على مشاعره، والتوبة تأخذ بناصيته ـ فوصفها بأنها تافهة وباطل!! لقد برئ منها الرازي، وندم أشد الندم على تأليفه لها، وقد عبر عن هذا الندم في أبياته تلك، وبما سجله في كتابه " أقسام اللذات" (34).
براءته من الخلفية: يقول في كتابه (أقسام اللذات) " لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تُروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأ في التنزيه: (والله الغني وأنتم الفقراء) وقوله: (ليس كمثله شيئ)،و (قل هو الله أحد)، وأقرأ: (الرحمن على العرش استوى)، (يخافون ربهم من فوقهم)، (إليه يصعد الكلم الطيب)، (قل كلٌ من عند الله) ومن جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي".
وصية الرازي في مرض موته: أملى الرازي في مرض موته على تلميذه "إبراهيم بن أبي بكر الأصفهاني" وصية طيبة، قال عنها " ابن خلكان": "ورأيت له وصية أملاها في مرض موته على أحد تلامذته تدل على حسن العقيدة (35) "، ومما جاء في هذه الوصية قوله: " ولقد اعتبرتُ الطرق الكلامية، ومناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم"، وقد استفتحها بقوله: "اعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم، فكنت أكتب في كل شيء شيئاً، لا أقف على كمية، ولا كيفية سواء كان حقاً، أو باطلاً، أو غثاً أو سميناً (36) ".
اعتراف صادق ريّان الإخلاص في ندامته بأن المناهج الكلامية، أو طريقة الخلف لا تهتدي، ولا تهدي إلى يقين، وإنما تورث الشك والقلق والحيرة العاصفة.
وفي وصيته الحزينة صورة موجعة من مأساته الدامية، وإنك لتكاد تلمح دموع التوبة، وهي تنساب من عينيه الذاويتين، وتحس شواظ الحسرة المشبوبة في أعماقه!!.
كما يتبين لك في جلاء: رجوعه عن "خلفيته" الجامحة إلى عقيدة السلف، ويبدو لك إيمانه القوي بالاستواء والفوقية. وإني أخص هاتين بالذكر؛ لأن الرازي ـ رحمه الله ـ كان لا يكفر بشيء قبل توبته كما يكفر بالاستواء والفوقية! ولكن تداركته رحمة من الله، فشرح للحق صدره، فتاب ومضى في شيخوخته الواهنة المكدودة المتعبة يبتهل إلى الله بالتوبة، ويلعن كل ما كتب من قبل!!.
ثم يُعلن عقيدته في وصيته، ولكنك تحس بالخوف القوي الذي يملك على الرجل أنفاسه، وقلمه، وفكره وهو يقول: " كلما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء في القِدَم والأزليّة والتدبير الفعالية، فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتّفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد، فهو كما هو".
ثم يقول، ودموعه تحمل أشجان قلبه وأفلاذه مُسْترحماً الرحمن الرحيم: "لتكن رحمتك مع قصدي، لا مع حاصلي، فذاك جهد المُقِلّ، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في زلة، فأغثني، وارحمني، واستر زَلَّتي، وامحُ حَوْبتي، يا من لا يزيد ملكة عرفان العارفين، ولا ينقص ملكه بخطأ المجرمين".
ثم يقول ما يجب أن يقول الخلف بعد توبتهم: " وأقول: ديني متابعة سيد المرسلين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما".
أين الصِّيالُ في سَوْرتِه، وأين الجدال المحموم في رعونته؟ وأين الرازي الخلفي الذي جعل كتاب الله وراءه ظهريا؟ لا ترى إلا قلباً يذوب في توبته، ولوعة تنَفِّس عن غليلها، واستسلاماً مقروناً بالخوف والخشية المهيمنة على نفس ذليلة.
¥