تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فيقال له: ما مرادك بالمادة والمادي هنا؟ فإن أردت ما كان قائمًا بنفسه، متصفًا بصفات ثبوتية، ذا وجود حقيقي متعين خارج الذهن، فإنا لا نسلم بتجريد الله تعالى، من ذلك، فإن ذلك لا يتجرد منه إلا العدم المحض، ومن تصور إلهه كذلك لم يثبت وجوده إلا في الأذهان.

أما إن أردت بالمادة والمادي ما يماثل أجسام المخلوقات وصفاتهم التي يلازمها الافتقار والفناء، فهذه غير لازمة لمن أثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الوجودية على وجه الكمال والتنزيه عن مماثلة خلقه، فلا وجه لجعلك مثبتًا للعلو عقلًا بهذا الدليل قائسًا للخالق على المخلوق.

ثانيها: قال: (نقول لهؤلاء: أين كان الله قبل أن يخلق العرش والفرش، والسماء والأرض، وقبل أن يخلق الزمان والمكان، وقبل أن تكون الجهات الست؟).

الجواب: تقدم جواب سليمان التيمي، رحمه الله، وهو مضمون ما رواه ابن ماجه (182) والترمذي (3109) وحسنه، قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: "كَانَ فِي عَمَاءٍ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ". قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: الْعَمَاءُ: أَيْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ.

وأما قوله: قبل أن يخلق الزمان والمكان والجهات. فلابد من بيان المراد بهذه الألفاظ؛ فإن الألفاظ التي لا تتضمن نقصًا ولم يرد استعمالها شرعًا في حق الله تعالى نفيًا ولا إثباتًا يجب التوقف فيها والاستفصال، فقد يراد بها معنى لا يجوز نفيه عن الله تعالى، وقد يراد بها معنى لا يجوز إثباته لله تعالى، فيكون في إجمال نفيها أو إثباتها إثبات للباطل أو نفي للحق، وذلك قول على الله بلا علم، فالزمان مثلًا إن أريد به الليل والنهار والأيام والليالي، فهذه مخلوقة، وإن أريد به نسبة الحوادث والمتحركات بعضها إلى بعض، فهذه متعلقة بقِدم أفعال الله تعالى، والله تعالى، لم يزل فعالًا لما يريد، لم يكن الفعل ممتنعًا عليه ثم صار ممكنًا له، بل هو قادر عليه أزلًا وأبدًا، فتدخل النسبة الزمانية الذهنية التي هي القبل والبعد في الأزلية بهذا الاعتبار، ولا يقال إنها بذلك تكون مشاركة لله تعالى، في الأزلية والأولية، فهي نسبة ذهنية لا وجود لها في الخارج، فضلًا عن مشاركتها للخالق في القدم، ويقال هذا أيضًا في نوع مفعولات الله تعالى، لم يزل سبحانه قادرًا عليها، لم يكن خلقها ممتنعًا عليه ثم صار ممكنًا له، لكنه يخلق ويفني، ويحيي ويميت؛ (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) [آل عمران: 47]. و: (يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [الحج: 14] لم يزل كذلك، ولهذا مدح نفسه سبحانه بقوله: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج: 16]. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) [الحجر: 86].

أما المكان فإن أريد به ما أحاط الجسم من سطوح الأجسام المحيطة به، فتكون ظرفًا له، ويكون مظروفًا فيها، فمثل هذا المعنى لا يجوز إثباته لله تعالى، سبحانه وتعالى أن يحيط به شيء، أما إن أريد به ما يشغله الجسم من الحيز الذي هو فراغ محض لا وجود له أصلًا إلا في الذهن، فهذا لا يقال إنه أعظم من المخلوق الذي شغله؛ إذ هو أمر وهمي لا وجود له في الخارج، فضلًا عن كون الجسم مفتقرًا إليه، واعتبر ذلك بالفراغ المحيط بسطح العالم الخارجي الذي هو نهاية المخلوقات، لو قيل إنه مكان للعالم، يفتقر إليه العالم، للزم من ذلك التسلسل الممتنع إلى ما لا نهاية؛ حيث كل مكان وجودي سيفتقر إلى مكان آخر من حوله، فإذا علمت امتناع ذلك في حق العالم، وأنه بشغله حيزًا وهميًّا لا يكون مفتقرًا إليه، مع كونه مخلوقًا، فالله سبحانه وتعالى، أولى وأحرى أن نثبت له وجودًا حقيقيًّا خارج الذهن يشار إليه وينظر إليه، ويخاطب، ويسمع دون أن يلزم من ذلك إثبات مكان يحيط به أو يفتقر هو إليه، فالمكان إذًا من الألفاظ المجملة التي يجب التفصيل في المراد بها عند استعمالها في حق الله تعالى، نفيًا أو إثباتًا، وبهذا يتبين القول في الحيز والجهة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير