وقد قال الله تعالى: ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)) ().
وأما من زعم أنه يسبق إلى خير لم يسبق إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شابه المشركين، كما قال الله تعالى عنهم في قوله تعالى في سورة الأحقاف: ((وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)) ().
فثبت أن الصحابة رضي الله عنه هم السابقون إلى الخير، فلا يتركون فعل شيء ويكون خيراً، بل إذا تركوا فعل شيء فلا شك أنه من البدع المنهي عنها.
وليُعْلَم أن الكلام في هذا المقام عن أمور التعبد والتدين والتقرب، لا عن أمور الدنيا كالمهن والصناعات وما شابه ذلك، إذ الأصل فيها الإباحة.
وأما زعمه أن جمهور الأصوليين على ذلك ()، فهذا محض تخرص وتخمين، بل الحق خلاف ذلك وعكسه.
قال الزركشي في البحر المحيط: "القسم السابع (): الترك، لم يتعرضوا لتركه عليه السلام () …" ثم قال" قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول شيئاً وجب علينا متابعته فيه……" ().
وقال الإمام الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) وهو كالاختصار للبحر المحيط: "البحث العاشر: تركه صلى الله عليه وسلم للشيء كفعله له في التأسي به فيه" (). ثم ذكر كلام ابن السمعاني.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات: "وأما الترك فمحله في الأصل غير المأذون فيه، وهو المكروه والممنوع، فتركه صلى الله عليه وسلم دال على مرجوحية الفعل" ().
وقال العلامة ابن النجار في شرح الكوكب المنير: "وإذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك كذا كان أيضاً من السنة الفعلية، لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم لما قُدِّم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله، أمسك الصحابة رضي الله عنه وتركوه حتى بين لهم أنه حلال ولكنه يعافه" ().
أي لما عُلم أن تركه صلى الله عليه وسلم لأجل أن نفسه لم تقبله، علم أنه وجد هناك مانع له صلى الله عليه وسلم وأنه لا يَمنَعُ غيره من أمته من أكله، فأكله الصحابة رضي الله عنه على مائدته.
وقال العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين عن رب العالمين: "فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه، كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق" ().
قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم:" فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً -لو كان مصلحة () - ولم يفعل يعلم أنه ليس بمصلحة" ().
وقال فيه:" فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً لو كان مصلحة وهو مع هذا لم يشرعه فوضعه تغيير لدين الله تعالى …" ().
ثم قال: "بل يقال ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزوال المانع سنة، كما أن فعله سنة، فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات أو الحج، فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك، وكذلك لو أراد أن ينصب مكاناً آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره، لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول هذه بدعة حسنة، بل يقال له كل بدعة ضلالة، ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها، أو أن نعلم ما فيها من المفسدة، فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له، وزوال المانع لو كان خيراً، فإن كل ما يبديه المُحْدِثُ لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس…" ().
وفي المسودة مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن ترك الفعل مع المقتضي له يدل على عدم كونه مشروعاً، كترك النهي مع الحاجة إلى البيان" ().
قلت: وفي هذه النقول عن الأئمة الأعلام؛ بيانٌ واضح، وردٌ جلي للقاعدة التي يزعمها الأسمري وينسبها زوراً إلى جمهور الأصوليين، مع العلم بأن جمهورهم لم يتعرض للكلام في هذه المسألة، كما قاله الزركشي في البحر المحيط، وهو من أكثرهم تتبعاً لأقوال الأصوليين.
قال الأسمري:
"قول جمهور الأصوليين أنه لا يقتضي المنع" [وقد تبين ما فيه من تهور وتهوك] ثم قال: "إذا قيل بذلك هل يحرم المولد أم لا؟ على القاعدة لا يحرم، ولذلك إيش قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم تجاه المولد …… شيخ الإسلام لم يحرمه مطلقاً ولم يمنه مطلقاً …"
والجواب:
أن الأسمري قد نسب لشيخ الإسلام القول بأن ترك الفعل مع قيام المقتضي وعدم وجود المانع من الفعل لا يدل على التحريم، لأن قول الأسمري "لذلك" يعني لما تقدم من هذه القاعدة وقول الجمهور بها -فيما يزعم-"يقول شيخ الإسلام" كذا وكذا، وهذا يعني اعتبار شيخ الإسلام لها وقوله بها، فإن اللام في قوله "لذلك" لام التعليل، أي لأجل ذلك قال شيخ الإسلام كذا وكذا.
وهذا محض تقول على شيخ الإسلام، بل هو افتراء عليه، وقد قدمت عدة نقول عنه رحمه الله تعالى تبين أنه بريء مما نَسب إليه الأسمري وحاول إلصاقه به، بل إنه يقول بخلاف ما نَسبه إليه تماماً.
¥