ثم يقول: (وظلت الرئاسة على العالم المسيحي معقودة لهذه الشعبة المقيمة في بيت المقدس حتى تهدَّم الهيكل وتقوضت مدينة بيت المقدس وتبددت الجماعة في أطراف البلاد، وآلت قيادة الدعوة إلى الشعبة التي كانت تعمل في خارج فلسطين) [7]!!
ويَعْلَمَ العقادُ، ويعلم الذين قرءوا شيئاً عن النصرانية، أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يترك دولة بل أفراداً يعدُّون عدّاً، تركهم محسورين مكبوتين خائفين والعقَّاد يقول فريقان يتنابون رياسة!!
وهو متردد، وتردده أمارة على فساد رأيه؛ مرة يقول التلاميذ كانوا اثنا عشر، ومرة يقول كانوا ثمانين، ومرة يقول ترك المسيح شعباً كثيراً [8]، ومرة يقول بل ترك شعبتين متوازيتين إحداهما بالداخل والأخرى بالخارج، وفي ذات الكتاب يغير عباس العقاد كلامه فيذكر أن التحريف الحاصل في النصرانية على يد (بولس) ومن معه كان تطوراً طبعياً [9]، والتطور يعني أنه حدث بعد فترة من الزمن.
والقول بأن التغير الحاصل على يد (بولس) كان تطوراً وطبعياً ينقض قوله الأول بأن بولس من التلاميذ، وأن المسيح ـ عليه السلام ـ ترك شعبتين متوازيتين إحداهما بالخارج يترأسها (بولس) والأخرى بالداخل يترأسها يعقوب أخوه [10]!!
والقول بأن التغير الحاصل على يد (بولس) كان تطوراً وطبعياً غير صحيح من ناحيتين:
الأولى: أنه لم يكن تعديلاً بسيطاً في الفروع اقتضته المستجدات بعد أن طال عليهم الأمد وتغير الزمان واقتضى الحال تغير الفتوى، وإنما كان تبديلاً مباشراً وشاملاً ومناقضاً تماماً كما قدّمتُ.
الثاني: أن هذا التغير كاد أن يلحقَ المسيحَ ـ عليه السلام ـ، فبولس (مؤسس شعبة الخارج كما يدعي العقَّاد) من معاصري المسيح ـ عليه السلام ـ في نفس عمره تقريباً، وبدأ دعوته بعد رفع المسيح ـ عليه السلام ـ بأيام.
فأين التطور الذي يتكلم عنه العقاد؟!!
وحين تُراجِع كلام عباس العقاد الذي يدلل به على صحة أقوال بولس، أو حين تراجع أدلة العقاد التي يتكئ عليها في موقفه الإيجابي من بولس لا تجد سوى حِفْنة من البيان يلقي في وجه من يقرأ له. يقول: عُذِّبَ وأوذي هو ومن معه وتبعته ألوف من الناس [11]، وأهلُ الباطلِ لا يتحملون العذابَ [12]!!
وهذا الكلام غير صحيح، فلم يعذب بولس ويؤذى؛ وجهده الذي بذله لا يساوي جهدَ ناشطٍ يترأس أسرة دعوية بين طلاب المدن الجامعية، فلم يقاتل عدواً ولم ينفق مالاً، بل كان كذَّاباً متلوناً يلبس لكل قومٍ لبوسهم [13]، ولم يجلد ظهره أو يؤخذ ماله، وضربت عنقه في نهاية حياته بعد أن شاخ دونما تعذيب وتشريد، ومثل هذا النوع من الناس يقدمون على القتل كنوع من الدعاية لأفكارهم.
وإن سلمنا جدلاً أن بولس لاقى عذاباً شديداً ـ وهو ما لا نعرفه ـ فلا يصلح أن يتكئ العقاد عليه كدليل على موقفه الإيجابي من (بولس)، فلو أن كلَّ من صبر على بلاءٍ وتبعه ألوف من الناس صحّحنا مذهبه، لصار الكل تقيّاً مؤمناً .. بوذا .. وكرشنا .. وجنكيز خان .. والحلاج وكان جّلِداً صبوراً .. والجهم بن صفوان .. ومحمد بن كرام .. والجعد بن درهم .. بل ليس ثّمَّ تمكينٌ لحقٍ أو باطلٍ بلا جَلَدٍ ومجالدة، وكل هؤلاء تتبعهم الملايين {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف103 {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} الأنعام116
فَتَّشْتُ كثيراً وطويلا في ما كتب العقاد .. فوجدت الرجل يصر على تصويب بولس ومن كانوا معه من المبدلين لدين الله.حتى أنه يدفع عن بولس تهمة الكذب التي أقر بها على نفسه، وشهد بها عليه أصدقائه وأعدائه يقول العقاد مدافعاً عنه (بولس كان يتألف القلوب ببعض المجاملة [14]
وشيءٌ آخر: المسيحُ ـ عليه السلام ـ وبولس ـ عليه لعنة الله ـ مروا بالتاريخ مرور الكرام في زمانهم، حتى أنك لا تستطيع أن تدلل على وجود المسيح ـ عليه السلام ـ من غيرِ كتب المسلمين، وكلُ كتابٍ يتكلم عن المسيح ـ عليه السلام ـ وبولس ـ عليه لعنة الله ـ بما في ذلك كتاب النصارى لا يثبت أمام النقد العلمي.!!
¥