تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الجهة الأولى: لا يلزم الأخذ بمضمون الآية الدالة على جواز بناء المسجد على القبر؛ لأنَّ ما تقرر -أصوليا- «أنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعٌ لَنَا»، ولا يحلُّ الحكم بشريعة نبيّ مَن قبلنا لقوله تعالى: ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا? [المائدة: 48]، ولقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: «فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ» فذكر منها: «أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بُعِثَ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ وَالنَّاسِ كَافَّةً» (20 - أخرجه مسلم، كتاب «الصلاة»: (1167)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواية «الأحمر والأسود» أخرجها: الدارمي في «سننه»: (2375)، وأحمد (20792)،من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأحمد كذلك: (2737)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 261): «رجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث»، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (4/ 261)، والألباني في «الإرواء»: (1/ 316).)، فدلَّ ذلك على أنه لم يبعث الله تعالى إلينا أحدًا من الأنبياء غير محمَّد صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم، وإنما كان غيره يبعث إلى قومه فقط لا إلى غير قومه.

الجهة الثانية: وعلى تقدير أنَّ شرع من قبلنا شرع لنا فمشروط بعدم التصريح في شرعنا ما يخالفه، ويبطله، فإن ورد في شرعنا ما ينسخه لم يكن شرعًا لنا بلا خلاف، كالأصرار والأغلال التي كانت عليهم في قوله تعالى: ?وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ? [الأعراف: 157]، وقد جاءت النصوص الحديثية متضافرةً ومتواترة تنسخ هذا الحكم وتنهى عن بناء المساجد على القبور وتغلِّظ النكير.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فإنَّ الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا: ?لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا? ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور» (21 - «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (1/ 300).).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: «وهذا كان شائعاً فيمن كان قبلنا، فأمَّا في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم أنه قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يحذر ما فعلوا» (22 - «البداية والنهاية» لابن كثير: (2/ 116).).

قال الآلوسي -رحمه الله-: «مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا، لكن لا مُطلقًا، بل إن قصَّ اللهُ تعالى علينا بلا إنكار، وإنكارُ رسوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم كإنكاره عزَّ وجلَّ، وقد سمعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لَعَنَ الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفًا احتجاج الأئمة بها، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسِّي بهم، فمتى لم يثبت أنَّ فيهم معصومًا لا يدل على فعلهم -فضلاً عن عزمهم- على مشروعية ما كانوا بصدده. وممَّا يقوِّي قِلة الوثوق بفعلهم القول بأنَّ المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة» (23 - «روح المعاني» للآلوسي: (5/ 31).).

فالحاصل: إن كان بناء المساجد على القبور سُنَّة النصارى، فإن كان شرعًا لهم فقد نسخه الإسلام بما نطقت الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة، وإن كان بدعةً منهم فأجدر بتركها والتخلي عنها إذ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ» (24 - أخرجه النسائي كتاب «صلاة العيدين»،باب كيف الخطبة: (1578)، من حديث جابر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (3/ 73).)، ولا يستدلُّ بالآية بمعزل عمَّا تقتضيه الأحاديث الثابتة اكتفاءً بالقرآن الكريم واستغناءً عن السُّنَّة المُطهَّرة فإنَّ هذا من صنيع أهل الأهواء والبدع، وأهلُ الحقِّ يؤمنون بالوحيين، ويعلمون أنَّ طاعة الرسول من طاعة الله تعالى، ويعملون بمقتضاهما، قال تعالى:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير