وقد سألتُ شيخنا عبد المحسن العبَّاد البدر –حفظه الله-: هل هناك من التابعين من هو أفضل من أي واحد من الصحابة؟ قال شيخنا-حفظه الله-: إن أي واحدٍ من الصحابة أفضل من أي واحدٍ من التابعين ومن بعدهم, وسبب تفضيلهم أن عيونهم رأت النبي –صلى الله عليه وسلم-. انظر: إتحاف العِباد بفوائد دروس الشيخ عبد المحسن العبَّاد (ص25).
ولذا قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله- في تفسير قوله –صلى الله عليه وسلم- (ثم الذين يلونهم): "مقتضى هذه الأحاديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين. لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة للجمهور أو الأفراد؟ محل بحث, وإلى الثاني نحا الجمهور, والأول قول ابن عبد البر". فتح الباري (7/ 8).
وقد جاء عن أبي عمر ابن عبد البر بإسناده إلى إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: "سألت أبا أسامة أيما كان أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال لا نعدل بأصحابِ محمدٍ أحداً".انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 227).
وفي ترجمة أبي ظبية الكُلاعي في تهذيب الكمال جاء فيها: " أبو ظبية من أفضل رَجُلٍ بالشام إلا رجلاً من الصحابة, وقال أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش: في هذا الحديث-أي حديث الوضوء-: وكانوا لا يعدلون به رجلاً إلا رجلاً صاحَبَ محمداً –صلى الله عليه وسلم- ". (33/ 449 - 450).
أما من استدلال بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أتى المقبرة، فقال: ((السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنَّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسْنا إخوانَك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لَم يأتوا بعد)) الحديث، رواه مسلم (249) وغيرُه.
فالاستدلال بهذا الحديث لا ينبغي أبداً لأن الصحابة كما أنهم –رضي الله عنهم- أصحابه فهم إخوانه من باب أولى.
ولذا قال: شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: ((ومعلومٌ أنَّ قوله (إخواني) أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي، وأمَّا أنتم فلكم مزيَّة الصُّحبة ...
فجعل هذا حدًّا فاصلاً بين إخوانه الذين ودَّ أن يراهم وبين أصحابه، فدلَّ على أنَّ مَن آمن به ورآه فهو من أصحابه، لا مِن هؤلاء الإخوان الذين لَم يَرَهم ولَم يَرَوْه، فإذا عُرف أنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ تَعُمُّ قليلَ الصُّحبة وكثيرَها، وأدناها أن يصحبَه زمناً قليلاً، فمعلومٌ أنَّ الصِّديقَ في ذروةِ سَنَام الصُّحبة وأعلى مراتبها؛ فإنَّه صَحِبَه من حين بعثه الله إلى أن مات)). منهاج السنة (8/ 389).
قال شيخنا عبد المحسن العبَّاد –حفظه الله-: "فدلَّ الحديثُ على التمييز بين أصحابه وإخوانِه، وأنَّ أصحابَه هم الذين أدركوه ورأوه، وإخوانَه الذين يأتون مِن بعد ولَم يروه، والمرادُ بالأُخوَّة الأخوَّة الإيمانية، والصحابةُ جمعوا بين الصُّحبةِ والأُخوَّة، والذين بعدَهم نصيبُهم الأُخوَّة وحدها". الانتصار للصحابة الأخيار (ص21).
إذا فالصواب أن هذا الحديث لا يجوز الاستدلال به قطعاً على أن من كان أجره أكثر, فإنه أفضل!!!؛ وذلك لأن الصحابة فازوا بشرف الإيمان والصحبة التي لايعدلها شرفٌ أبداً, ولذا قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لو أنفق أحدكم مثل جبل أحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه).
وقال الحافظ ابن حجر –رحمه الله-: " وقد كان تعظيمُ الصحابة -ولو كان اجتماعُهم به صلَّى الله عليه وآله وسلم قليلاً- مقرَّراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، فمِن ذلك ما قرأتُ في كتاب أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، بخطِّ بعضِ مَن سمعه منه في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، قال: حدَّثنا علي بن الجعد، قال: حدَّثنا زهير هو الجعفي، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيْح العَنَزِي قال: كنت عند أبي سعيد الخدري))، ثمَّ ذكره الحافظ بإسناده إلى نُبيح قال: ((كنَّا عنده وهو متَّكئ، فذكرنا عليًّا ومعاوية، فتناول رجلٌ معاويةَ، فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً، ثمَّ قال: كنَّا ننزلُ رفاقاً مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكنَّا رفقةً فيها أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات وفيهم امرأة حُبلى، ومعنا رجلٌ من أهل البادية، فقال للمرأة الحامل: أَيَسُرُّك أن تلِدي غلاماً، قالت: نعم! قال: إن أعطيتِنِي شاةً ولَدتِ غلاماً، فأعطَتْه، فسَجَع لها أسجاعاً، ثمَّ عمد إلى الشاةِ فذبحها وطبخها، وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر، فلمَّا علم بالقصَّة قام فتقيَّأ كلَّ شيءٍ أكل، قال: ثمَّ رأيتُ ذلك البَدَويَّ أُتِي به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصارَ، فقال لهم عمر: لولا أنَّ له صحبةً!! من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما أدري ما نال فيها لَكَفَيْتُكموه، ولكن له صحبة مِن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم!! ".
قال الحافظ: "لفظ علي بن الجعد، ورجال هذا الحديث ثقات، وقد توقَّف عمر رضي الله عنه عن معاتبتِه فضلاً عن معاقبتِه لكونه علم أنَّه لقي النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك أبينُ شاهد على أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شأنَ الصحبة لا يعدله شيء!!)). ابن حجر في الإصابة (1/ 20 ـ 21).
هذا وإني أسأل الله تبارك وتعالى أن يحشرني وإخواني أهل السنة في زمرة أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
كتبه راجي عفو ربه المنان
عبد الرحمن بن محمد العميسان
يوم الثلاثاء 17/ 5/1430هـ
المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام