أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ "، وَقَالَ تَعَالَى: " وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ".
وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ، وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ، لَكَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ رَفْعِهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَدِّهِ إلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ.
وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَوْ يَقْصِدُوا بِقُلُوبِهِمْ التَّوَجُّهَ إلَى الْعُلُوِّ؛ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ سَائِر الْأَحْكَامِ، فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا فِي قَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاءِ، أَوْ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا محايث لَهُ وَلَا مُبَايِنَ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ الْعَبْدُ إذَا دَعَاهُ الْعُلُوَّ دُونَ سَائِر الْجِهَاتِ؟!
بَلْ جَمِيعُ مَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة مِنْ النَّفْيِ - وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ - لَيْسَ مَعَهُمْ بِهِ حَرْفٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْل أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَمْلُوءَةٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ كُفْرٌ؛ فَنُؤَوِّلُ أَوْ نُفَوِّضُ؛ فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا مَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، وَالسَّلْبُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ - الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَوْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِقَادُهُ عِنْدَهُمْ - لَمْ يَنْطِقْ بِهِ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ وَلَا أَحَدٌ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ وَاَلَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَوَرَثَتُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَقُّ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ؛ بَلْ وَحُذَّاقُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ".
أقول: ويضاف إلى ما ذكره أن هذا الحديث من أحاديث الآحاد، فإما أن يستدلوا بها في كل موطن أو يتركوا الاستدلال بها مطلقاً، لا أن يستدلوا بها إذا ظنوا أنها توافق اعتقادهم ويردوها إذا خالفته.
الوقفة الثالثة: زعمه أن الجويني لم يكن من أهل الحيرة والتردد، بل كان أعرف الناس بالله، قال: " إن كان الإمام مُتحيِّرَاً لا يدري ما يعتقد فواهاً على أئمة المُسلمِين، من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة إلى اليوم ".
أقول: مما يدل على حيرة الجويني، أنه في كتابي الإرشاد والشامل يعتمد التأويل مسلكاً في أحاديث وآيات الصفات، ثم يتراجع عنه ويحكي الإجماع على خلافه في العقيدة النظامية.
أما ما ذكره السبكي بعد كلامه المنقول آنفاً من تبرير لهذا التراجع بأنه: " لا إنكار في التفويض ولا في مقابله، فإنها مسألة اجتهادية أي: مسألة التأويل أو التفويض، مع اعتقاد التنزيه ".
أقول: هذا يأباه نص الجويني في النظامية، فإنه لم يجعل المسألة اجتهادية، بل حكى الإجماع على التفويض، وأن سواه ابتداع، والمسائل الاجتهادية ليست كذلك.
وقد سبق نقل كلام الجويني والتعليق عليه.
ومما يدل أيضاً على تردد الجويني وحيرته ما ذكره الذهبي في ترجمة الإمام أبي عثمان الصابوني في سير أعلام النبلاء (18/ 43 - 44) قال: " قال معمر بن الفاخر: سمعتُ عبد الرشيد بن ناصر الواعظ بمكة، سمعت إسماعيل بن عبد الغافر، سمعت الامام أبا المعالي الجويني يقول: كنت بمكة أتردد في المذاهب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: عليك باعتقاد ابن الصابوني.
¥