واشتهر أيضاً بعثه الأمراء في السرايا والبعوث، وأمره بطاعتهم فيما يخبرون عنه، وكذلك كتبه التي بعثها إلى الملوك في زمانه، كان يتولى كتابتها واحد، ويحملها شخص واحد غالباً، كما بعث دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل عظيم الروم، و عبدالله بن حذافة إلى كسرى.
ومثلها كتبه التي كان يبعثها إلى ولاته وعماله بأوامره وتعليماته، يكتبها واحد، ويحملها واحد، ولو لا أن أخبارهم تقوم بها الحجة لكان بعثهم عبثاً، ولحصل التوقف من المدعوين، ولم ينقل أن أحداً منهم قال لمن علمه شيئاً من الدين، أو طلب منه جزية، أو زكاة أو نحوها: إن خبرك لا يفيد العلم، فأنا أتوقف حتى يتواتر الخبر بما ذكرت.
وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد والاحتجاج به، ولم ينقل أن أحداً منهم قال: " إن هذا خبر واحد يمكن عليه الخطأ فلا تقوم به الحجة حتى يتواتر، ولو قال أحد منهم ذلك لنقل إلينا، وقد نقلت عنهم في هذا الباب آثار لا تحصى منها:
ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة "، ولولا حصول العلم لهم بخبر الواحد، لما تركوا المعلوم المقطوع به عندهم لخبر لا يفيد العلم ولا تقوم به الحجة.
وحديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين قال: " كنت أسقي أبا طلحة و أبا عبيدة، و أبي بن كعب شراباً من فضيخ، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها "، حيث قطعوا بتحريم الخمر، وأقدموا على إتلاف ما بأيديهم من مال تصديقاً لذلك المخبر، ولم يقولوا: نبقى على حلها حتى يتواتر الخبر، أو نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع قربهم منه، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت.
وكذلك قضاء عمر رضي الله عنه في الجنين حين قال لأصحابه: " أَذْكَرَ الله امرأً سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئاً، فقام حمل بن مالك فقال: " كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بغرة، فقال عمر:" لو لم نسمع به لقضينا بغيره " ورجوعه بالناس حين خرج إلى الشام فبلغه أن الوباء قد وقع بها، لما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا سمعتم به ببلدة فلا تقدموا عليه) متفق عليه، وقبل خبر عبد الرحمن أيضاً في أخذ الجزية من مجوس هجر، بعد أن قال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم، وغيرها كثير.
ولم يزل سبيل السلف الصالح ومن بعدهم قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والاحتجاج به، حتى جاء المتكلمون فخالفوا ذلك، قال الإمام الشافعي رحمه الله (الرسالة 1/ 451): " وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان ...... ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله، والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه، ويقبله عنه من تحته، ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه - بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " أهـ.
وقال في (الأم 7/ 460): " لم أسمع أحداً - نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم - يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتسليم لحكمه، فإن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قولٌ بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، إلا فرقة سأصف قولها- إن شاء الله تعالى – " أهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله ابن القيم (مختصر الصواعق 2/ 372): " وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولا معناه، لكن تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له … .... فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع " أهـ.
وبهذا يتضح - بما لا يدع مجالاً للشك- حجية أخبار الآحاد ولزوم العمل بها في أمور الدين كله متى ما ثبتت عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم-، وأن القول بعدم حجيتها قول باطل لا يعرف إلا عن أهل البدع ومن تبعهم، ولو ترك الاحتجاج بها لهجرت السنة، وتهاوت أركان الشريعة، واندثر الحق، قال الإمام ابن حبان في مقدمة صحيحة (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 156): " فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد "، إلى أن قال: " وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد، فقد عمد إلى ترك السنن كلها، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد ".أهـ.
و هذا منقول من هنا:
http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?id=27223
¥