تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإنا لو دخلنا ديار الروم، فوجدنا أثمان الخمور و أجرة الفجور، كان لنا حلالاً بوصف الغنيمة.

أفتريد حلالاً، على معني أن الحبة من الذهب لم تنتقل مذ خرجت من المعدن، على وجه لا يجوز؟

فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله.

أو ليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تصدق على بريرة بلحم فأهدته، جاز له آكل تلك العين لتغير الوصف.

و قد قال أحمد بن حنبل "أكره التقلل من الطعام، فإن أقواماً فعلوه فعجزوا عن الفرائض ".

و هذا صحيح. فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله و إعفافهم، و عن بذل القوى في الكسب لهم، و عن فعل خير قد كان يفعله.

- و لا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحث على الجوع، فإن المراد بها إما الحث على الصوم , و إما النهي عن مقاومة الشبع.

فأما تنقيص المطعم على الدوام، فمؤثر في القوى، فلا يجوز.

ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، و النبي كان يود أن يأكله كل يوم.

و اسمع مني بلا محاباة: لا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال بشر، و قال إبراهيم بن أدهم. فإن من احتج بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ أقوى حجة. على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظن.

و لقد ذاكرت بعض مشايخنا ما يروى عن جماعة من السادات، أنهم دفنوا كتبهم فقلت له: ما وجه هذا؟ فقال: "أحسن ما نقول أن نسكت"، يشير إلى أن هذا جهل من فاعله.

و تأولت أنا لهم، فقلت: لعل ما دفنوا من كتبهم، فيه شيء من الرأي، فما رأوا أن يعمل الناس به.

و لقد روينا في الحديث، عن أحمد بن أبي الحواري: أنه أخذ كتبه فرمى بها في البحر، و قال:" نعم الدليل كنت! و لا حاجة لنا إلى الدليل بعد الوصول إلى المدلول ".

و هذا ـ إذا أحسنا به الظن ـ قلنا: كان فيها من كلامهم ما لا يرتضيه.

فأما إذا كانت علوماً صحيحة، كان هذا من أفحش الإضاعة، و أنا و إن تأولت لهم هذا، فهو تأويل صحيح في حق العلماء منهم، لأنا قد روينا عن سفيان الثوري: أنه قد أوصى بدفن كتبه _ و كان ندم على أشياء كتبها عن قوم، و قال: حملني شهوة الحديث.

و هذا لأنه كان يكتب عن الضعفاء و المتروكين، فكأنه لما عسر عليه التمييز أوصى بدفن الكل.

و كذلك من كان له رأي من كلامه ثم رجع عنه، جاز أن يدفن الكتب التي فيها ذلك، فهذا وجه التأويل للعلماء.

فأما المتزهدون، الذين رأوا صورة فعل العلماء، و دفنوا كتباً صالحة لئلا تشغلهم عن التعبد، فإنه جهل منهم، لأنهم شرعوا في إطفاء مصباح يضيء لهم، مع الإقدام على تضييع مال لا يحل تضييعه.

و من جملة من عمل بواقعة دفن كتب العلم، يوسف بن أسباط، ثم لم يصبر عن التحديث فخلط، فعد في الضعفاء.

أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا محمد بن المظفر الشامي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، قال: حدثنا يوسف بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن عمرو العقيلي قال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: أخبرنا أحمد بن خالد الخلال. قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت ليوسف بن أسباط: كيف صنعت بكتبك؟ قال: " جئت إلى الجزيرة، فلما نضب الماء دفنتها حتى جاء الماء عليها، فذهبت ".

قلت: ما حملك على ذلك؟

قال: " أردت أن يكون الهم هماً واحداً ".

قال العقيلي: و حدثني آدم، قال: سمعت البخاري قال: قال صدقة: "دفن يوسف بن أسباط كتبه، و كان يغلب عليه الوهم فلا يجيء كما ينبغي ".

قال المؤلف: قلت: الظاهر أن هذه كتب علم ينفع، و لكن قلة العلم أوجبت هذا التفريط، الذي قصد به الخير، و هو شر.

فلو كانت كتبه من جنس كتب الثوري، فإن فيها عن ضعفاء و لم يصح له التمييز، قرب الحال. إنما تعليله يجمع الهم هو الدليل على أنها ليست كذلك، فانظر إلى قلة العلم، ماذا تؤثر مع أهل الخير.

و لقد بلغنا في الحديث عن بعض من نعظمه، و نزوره، أنه كان على شاطئ دجلة، فبال ثم تيمم، فقيل له: الماء قريب منك، فقال: خفت ألا أبلغه!!.

و هذا و إن كان يدل على قصر الأمل، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث تلاعبوا به، من جهة أن التيمم، إنما يصح عند عدم الماء.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير