1 - أما ادعاء أن الفرق بين لفظ الرب والإله هو من اختراع ابن تيمية فهو كلام لا يصدر إلا من جاهل بلغة العرب؛ فإن العرب تقول: رب الإبل، ورب الدار ونحوه .. لكل من كان له نوع تربية أو ملك أو تعاهد، ويطلقون لفظ العبادة على من توجه إلى غيره بالقصد والطلب والحب.
ثم إننا لو سلمنا لهم جدلا أن لفظ الرب والإله مترادفين؛ فسيبقى أن هناك من المشركين من أقر بوجود الله، وبأنه المتصرف في الكون ومع ذلك جاءتهم رسلهم بقولهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف:59).
2 - أما الشبهة الثانية فقائلها قد سلك المسلك المعتاد لكل مخالف للكتاب والسنة حينما يستدل ببعض نصوص الكتاب والسنة معرضاً تمام الإعراض عن البعض الآخر، فالآيات التي تدل على أن المشركين أتوا ببعض معاني توحيد الربوبية فلم ينفعهم في غاية الوضوح، والجمع بينها وبين ما استدلوا به من الآيات سهل ويسير، وهو أنه كان من المشركين من يجحد وجود الله أصلاً، ومنهم من كان يقر بوجوده، ولكنه يشرك معه غيره كحال مشركي العرب، ومنهم من أقر بوجوده وادعى أنه لا يعبد إلا الله ثم جعل الله ثالث ثلاثة فصار يعبد ثلاثة وهو يسميهم واحداً، وكل هؤلاء كفار بالكتاب والسنة والإجماع مع أن الأكثرية منهم يقرون بوجود الله -تعالى-.
وهذا يدل على أن الكافر المقر بوجود الله وإن كان أقل شراً ممن جحد وجوده إلا أنه ما زال كافراً، ومن هنا بشَّرَ الله المؤمنين بقرب نصر الروم على الفرس لكونهم نصارى وهم على كفرهم أهون شراً من الفرس المجوس.
ثم إن المتأمل لمعظم المواطن التي تعرض فيها القرآن لقضية الخلق، وجده يعرض لها عرض المقرر للخصم بما هو متفق عليه قبل الانتقال إلى غيره، بل إن أول أمر في سياق المصحف قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21).
ولتوضيح هذه الشبهة والتي قبلها نقول:
الرب بمعنى المصلح لشأن غيره والسيد والمالك، وورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- رباً: أي سيداً وإلها، فالإله أحد معاني الرب، وبينهما تلازم عقلي، وهو أن من أقر بأن الله هو الخالق الرازق المدبر فيلزمه عقلا أن يقر بأنه وحده المستحق للعبادة.
وأن القرآن في خطابه مع من أقر بالأول دون الثاني -وهم معظم المشركين كما بينا- قد نعى عليهم تناقضهم واضطرابهم، وإقرارهم بالشيء مع جحودهم للازمه.
وبعبارة أخرى، فإن القرآن قد قرر قاعدة: "من خَلَق يُعبَد"، وإن المشركين أصروا على عبادة غير الخالق لكي يقربهم إلى الخالق.
3 - وإذا تبين هذا تبين أن تقسيم التوحيد إلى الأقسام الثلاثة تقسيم اصطلاحي لم يزد على الحقائق الشرعية أو ينقص منها شيئا، وإنما كشف عوار من أرادوا النقص عن المعاني الشرعية للتوحيد الذي هو أصل دعوة جميع الرسل، ومثل هذا مما يقال فيه: "لا مشاح في الاصطلاح".
وفرق بين المصطلح الذي يخفي تحته معنى من اختراع صاحبه، وبين المصطلح الذي يمثل نوعا من اختصار الكلام والإيجاز فيه على النحو الذي عهدته العرب من الفصاحة والاختصار في كلامها، وما عهده أصحاب كل العلوم من وضع المصطلحات التي تغنيهم عن إعادة الكلام.
وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الحالين فقم باستبدال مصطلحات: "توحيد الربوبية" و"توحيد الألوهية" في سياق الكلام السابق، وضع مكان كل منهما جملة أو جملتين تشرح معناهما؛ فإذا وجدت أن المعنى ما زال مستقيما موافقا للكتاب والسنة -وهو كذلك بإذن الله- فاعلم أن هذا من المصطلحات التي يقال فيها: "لا مشاح في الاصطلاح".
وإنه في مقام المناظرة بوسعنا أن نتجنب هذه المصطلحات، والاستعاضة عنها بتلك الجمل الطويلة قطعاً لسبل الحيدة والعلل التي يتعلل بها المتعللون (2).
¥