فيظهر من هذا الصلة التي بين قول اللسان وبين قول القلب وعمله.
وإذا تبين لك ذلك، علمت وهاء احتجاج غلاة المرجئة بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ " خرجه مسلم (29)، على نجاة من أتي بقول اللسان دون عمل القلب والجوارح، إذ أن هذا النص مطلق، وقد جاءت نصوص أخرى تقيده بالشروط المذكورة آنفاً.
1 - فجاءت مقيدة بشرط العلم في حديث عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ". خرجه مسلم (26).
2 - وجاءت مقيدة بشرط اليقين في قوله صلى الله عليه وسلم: " أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وفي رواية: " فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ ". خرجه مسلم (27).
3 - وجاءت مقيدة بشرط الصدق في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار ".
4 - وجاءت مقيدة بشرط الإخلاص في حديث عتبان بن مالك وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ " متفق عليه. قال النووي رحمه الله تعالى في شرحه: " وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَة رَدٌّ عَلَى غُلَاة الْمُرْجِئَة الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِيمَان النُّطْق مِنْ غَيْر اِعْتِقَادٍ فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيث، وَهَذِهِ الزِّيَادَة تَدْمَغهُمْ. وَاَللَّه أَعْلَم ".
- وقد أشار الحسن البصري رحمه الله تعالى إلى شرط الانقياد حين سئل: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ دَخَلَ اَلْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا دَخَلَ اَلْجَنَّةَ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كلمة الإخلاص بعد أن ذكر شيئاً من هذه الروايات: " وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ اَلْقَلْبِ، وَتَحَقُّقِهِ بِمَعْنَى اَلشَّهَادَتَيْنِ، فَتَحَقُّقُهُ بِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ أَلَّا يَأْلَهَ اَلْقَلْبُ غَيْرَ اَللَّهِ حُبًّا وَرَجَاءً، وَخَوْفًا، وَتَوَكُّلاً وَاسْتِعَانَةً، وَخُضُوعًا وَإِنَابَةً، وَطَلَبًا. وَتَحَقُّقِهِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اَللَّهِ أَلَّا يُعْبَدَ اَللَّهُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ اَللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَتَحْقِيقُ هَذَا اَلْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ أَنَّ قَوْلَ اَلْعَبْدِ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا إِلَهَ لَهُ غَيْرُ اَللَّهِ، وَالْإِلَهُ اَلَّذِي يُطَاعُ فَلَا يُعْصَى هَيْبَةً لَهُ وَإِجْلَالاً، وَمَحَبَّةً، وَخَوْفًا، وَرَجَاءً، وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ، وَسُؤَالاً مِنْهُ، وَدُعَاءً لَهُ، وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عز وجل، فَمَنْ أَشْرَكَ مَخْلُوقًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ اَلْأُمُورِ اَلَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ اَلْإِلَهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي إِخْلَاصِهِ فِي قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَنَقْصًا فِي تَوْحِيدِهِ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ اَلْمَخْلُوقِ بِحَسْبِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ ".
قوله رحمه الله: " وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ اَلْقَلْبِ "، يفيد أن شروط النجاة بقول: " لا إله إلا الله " ليست محصورة في الشروط الأربع المنصوص عليها في الأحاديث آنفة الذكر، بل التوكل والاستعانة والخشية وغير ذلك من أعمال القلوب كلها من الشروط أيضاً.
وكذلك الشروط التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن تبعه؛ فإنه لا يفهم حصرها بهذه السبعة إلا من جهة مفهوم العدد، ولا حجة به في مثل هذه المضايق.
¥