تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولهذا، لما شعر المتأخرون من المتكلمين بوهي هذه المقدمة راموا شدَّها وتقويتها بأن بيّنوا في زعمهم، أنه لا يمكن أن تتعاقب على محل واحد أعراض لا نهاية لها. وذلك أنم زعموا أنه يجب، عن هذا الموضع، أن لا يوجد منها في المحل عرضٌ ما مشار إليه إلا وقد وُجِدت قبله أعراض لا نهاية له. ولما كان ما لا نهاية لا ينقضي وجب أن لا يوجد هذا المشار إلي، أعني المفروض موجوداً. مثال ذلك: أن الحركة الموجودة اليوم للجرم السماوي إن كان قد وُجد قبلها حركاتٌ لا نهاية لها فقد كان يجب ألا توجد. ومثلوا لذلك برجل قال لرجل: " لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لا نهاية لها " فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبداً. وهذا التمثيل ليس بصحيح. لأن في هذا التمثيل: وُضِعَ مبدأٌ ونهايةٌ، ووُضِعَ ما بينهما غير متناه، لأن قوله وقع في زمان محدود، وإعطاؤه الدينار يقع أيضاً في زمن محدود، فاشترط هو أن يعطي الدينار في زمان يكون بينه وبين الزمان الذي تكلم فيه أزمنة لا نهاية لها، وهي التي يعطيه فيها دنانير لا نهاية لها، وذلك مستحيل. فهذا التمثيل بَيِّنٌ من أمره أنه لا يشبه المسألة الممثل بها.

وأما قولهم: إن ما يوجد، بعد وجود أشياء لا نهاية لها، لا يمكن وجوده، فليس صادقاً في جميع الوجوه، وذلك أن الأِشياء التي بعضها قبل بعض، توجد على نحوين: إما على جهة الدور، وإما على جهة الاستقامة.

فالتي توجد على جهة الدور، الواجب فيها أن تكون غير متناهية إلا أن يعرض عنها ما ينهيها. مثال ذلك: أنه إن كان شروق فقد كان غروب، وإن كان غروب فقد كان شروق، فإن كان شروق فقد كان شروق، وكذلك إن كان غيم فقد كان بخار صاعد من الأرض، وإن كان بخار صاعد من الأرض فقد ابتلت الأرض، فإن كان ابتلت الأرض فقد كان مطر، وإن كان مطر فقد كان غيم فإن كان غيم فقد كان غيم.

وأما التي تكون على استقامة مثل كون الإنسان من الإنسان، وذلك الإنسان من إنسان آخر، فإن هذا إن كان بالذات لم يصح أن يمر إلى غير نهاية.

ولأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الأخير. وإن كان ذلك بالعرض، مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان الذي هو الأب، وهو المصور له، ويكون الأب إنما منزلته الآلة من الصانع، فليس يمتنع، إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلاً لا نهاية له، أن يفعل، بآلات متبدلة، أشخاصاً لا نهاية لها.

وهذا كله ليس يظهر في هذا الموضع. وإنما سُقناه ليُعرَف أن ما توهم القوم من هذه الأشياء أنه برهان، فليس برهاناً ولا هو من الأقاويل التي تليق بالجمهور، أعني البراهين البسيطة التي كلف الله بها الجميع من عباده الإيمان به. فقد تبين لك من هذا أن هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية.

الكشف عن مناهج الأدلة (34 - 36)

د - نقد الجويني في إثبات وجود الله

وقال ابن رشد: وأما الطريقة الثانية فهي التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية. ومبناها على مقدمتين:

إحداهما: أن العالم، بجميع ما فيه، جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه، حتى يكون من الجائز مثلاً أصغر مما هو أو أكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي هو عليه، أو عدد أجسامه غير العدد الذي هي عليه، أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها، حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق، وفي النار إلى أسفل، وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية، وفي الغربية أن تكون شرقية.

والمقدمة الثانية: أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل صَيَّره بأحد الجائزتين أولى منه بالآخر.

فأما المقدمة الأولى فهي خطابية، وفي بادئ الرأي. وهي: أما في بعض أجزاء العالم فظاهرٌ كذِبُها بنفسه، مثل كون الإنسان موجوداً على خِلقة غير هذه الخِلقة التي هو عليها. وفي بعضه الأمر فيه مشكوك، مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية، إذ كان ذلك ليس معروفاً بنفسه، إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها أو تكون من العلل الخفية على الإنسان.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير