تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال ابن رشد: وقولهم: إن الله أجرى العادة بهذه الأسباب وأنه ليس تأثير في المسببات بإذنه، قول بعيد جداً عن مقتضى الحكمة، بل هو مبطل لها. لأن المسببات إن كان يمكن أن توجد من غير هذه الأسباب على حد ما يمكن أن توجد بهذه الأسباب فأي حكمة في وجودها عن هذه الأسباب؟! وذلك أن وجود المسببات عن الأسباب، عن الأسباب، لا يخلو من ثلاثة أو جه:

إما أن يكون وجود الأسباب لمكان المسببات من الاضطرار، مثل كون الإنسان متغذياً.

وأما أن يكون من أجل الأفضل، أعني لتكون المسببات بذلك أفضل وأتم، مثل كون الإنسان له عينان.

وإما أن يكون ذلك لا من جهة الأفضل من الاضطرار، فيكون وجود المسببات عن الأسباب بالاتفاق وبغير قصد، فلا تكون هنالك حكمة أصلا، ولا تدل على صانع أصلا، بل إنما تدل على الاتفاق.

وذلك أنه إن كان مثلاً، ليس شكل يد الإنسان ولا عدد أصابعها ولا مقدارها ضرورياً، ولا من جهة الأفضل، في الإمساك الذي هو فعلها، وفي احتوائها على جميع الأشياء المختلفة الشكل، وموافقتها لإمساك آلات الصانع، فوجود أفعال اليد عن شكلها وعدد أجزائها ومقدارها، وهو بالاتفاق. ولو كان ذلك كذلك لكان لا فرق بين أن يخص الإنسان باليد أو بالحافز، أو بغير ذلك مما يخص حيواناً حيواناً من الشكل الموافق لفعله.

وبالجملة متى رفعنا الأسباب والمسببات لم يكن ها هنا شيء يرد به على القائلين بالاتفاق. أعني الذين يقولون لا صانع ها هنا، وأن جميع ما حدث في هذا العالم إنما هو عن الأسباب المادية، لأن أحد الجائزين هو أحق أن يقع عن الاتفاق منه أن يقع عن فاعل مختار.

وذلك أنه إذا قال الأشعري إن وجود أحد الجائزين أو الجائزات هو دال علة أن هاهنا مخصصاً فاعلاً، كان لؤلئك أن يقولوا إن وجود الموجودات على أحد الجائزين أو الجائزات هو عن الاتفاق؛ إذ الإدارة إنما تفعل لمكان سبب من الأسباب. والذي يكون لغير عله ولا سبب هو عن الاتفاق؛ إذا كنا نرى أشياء كثيرة تحدث بهذه الصفة، مثل ما يعرض للأسطقسات أن تمزح امتزاجا ما بالاتفاق، فيحدث عن ذلك الامتزاج بالاتفاق موجود ما. ثم تمزح أيضاً امتواجاً آخر فيحدث بالاتفاق، عن ذلك الامتزاح بالاتفاق، موجود آخر، فتكون على هذا جميع الموجودات حادثه عن الاتفاق.

وأما نحن، فلما كنا نقول إنه واجب أن يكون ها هنا ترتيب ونظام، لا يمكن أن يوجد أتقن منه ولا أتم منه وأن الامتزاجات محدودة مقدرة، والموجودات الحادثة عنها واجبة، وأن هذه دائماً لا يخل، لم يمكن أن يوجد ذلك عن الاتفاق؛ لأن ما يوجد عن الاتفاق هو أقل ضرورة وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88]. وأي إتقان يكون – ليت شعري – في الموجودات إن كانت على الجواز.لأن الجائز ليس هو أولى بالشيء من ضده. وإلى هذا الإشارة بقوله: {ماترى في خلق الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور} [المالك: 3] وأي تفاوت أعظم من أن تكون الأشياء كلها يمكن أن توجد على صفة أخرى فوجدت على هذه، ولعل تلك الصفة المعدومة أفضل من الموجودة!؟

فمن زعم مثلاً أن الحركة الشرقية، لو كانت غريبة، والغربية شرقية، لم يكن في ذلك فرث في صنعة العالم، فقد أبطل الحكمة. وهو كمن زعم أنه لو كان اليمين من الحيوان شمالاً والشمال يميناً لم يكن في ذلك فرق في صنعة الحيوان. فإن أحد الجائزين، كما يمكن أن يقال فيه إنما وجد على أحد الجائزين من فاعل مختار، كذلك ممكن أن يقال إنه إنما وجد عن فاعلة على أحد الجائزين بالاتفاق: إذا كنا نرى كثيراً من الجائزات توجد على احد الجائزين عن فاعليها بالاتفاق.

وأنت تتبين أن الناس بأجمعهم يرون أن المصنوعات الخسيسة هي التي يرى الناس فيها أن كان يمكن أن تكون على غير ما صنعت عليه، حتى إنه ربما أدت الخساسة الواقعة في كثيرة من المصنوعات التي بهذه الصفة أن يظن انها حدث عن الاتفاق، وأنهم يرون أن المصنوعات الشريفة هي التي يرون فيها أنه ليس يمكن أن تكون على هيئة أتم وأفضل من الهيئة التي جعلها عليها صانعها. فإذن، هذا الرأي من آراء المتكلمين هو مضاد للشريعة والحكمة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير