تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومعنى ما قلناه، من أن القول بالجواز أن يدل على نفي الصانع من أن يدل على وجود، مع أنه ينفي الحكمة عنه، هو أنه متى لم يعقل أن هاهنا أوساطا بين المبادئ والغايات في المصنوعات، ترتب عليها وجود الغايات، لم بكن ها هنا نظام ولا ترتيب. وإذا لم يكن ها هنا نظام ولا ترتيب، لم يكن ها هنا دلالة على أن لهذه الموجودات فاعلاً مريداً عالماً. لأن الترتيب والنظام وبناء المسببات على الأسباب هو الذي يدل على أنها صدرت عن علم وحكمة. وأما وجود الجائز على أحد الجائزين، فيمكن أن يكون عن فاعل غير حكيم عن الاتفاق عنه، نثل أن يقع حجر على الأرض عن الثقل الذي فيه، فيسقط على جهة منه دون جهة، أو على موضع دون موضع، أو على وضع دون وضع. فإذن: هذا القول يلزم عنه ضرورة: إما إبطال وجود الفاعل على الإطلاق، وإما إبطال وجود فاعل حكيم عالم، تعالى الله وتقدست أسماؤه عن ذلك.

وأما الذي قاد المتكلمين من الأشعرية إلى هذا القول [فهو] الهروب من القول بفعل القوي الطبيعية التي ركبها الله تعالى في الموجودات التي ها هنا، كما ركب فيها النفوس وغير ذلك من الأسباب المؤثرة، فهربوا من القول بالأسباب لئلا يدخل عليهم القول بأن ها هنا أسباباً فاعلة غير الله. وهيهات! لا فاعل ها هنا إلا الله: إذ كان مخترع الأسباب مؤثرة، هو بإذنه وحفظه لوجودها. وسنبين هذا المعنى بياناً أكثر في مسألة القضاء والقدر.

وأيضاً فإنهم خافوا أن يدخل عليهم، من القول الأسباب الطبيعية، أن يكون العالم صادراً عن سبب طبيعي. ولو علموا أن الطبيعة مصنوعة، وأنه لا شيء أدل على الصانع من وجود موجود بهذه الصفة في الأحكام، لعلموا أن القائل بنفي الطبيعة قد أسقط جزءاً عظيماً من موجودات الاستدلال على وجود الصانع العالم، بجحده جزءاً من موجودات الله. ذلك أن من جحد جنساً من المخلوقات الموجودة، فقد جحد فعلاً من أفعال الخالق سبحانه. ويقرب هذا ممن جحد صفة من صفاته.

وبالجملة، فلما كان نظر هؤلاء القوم مأخوذا من بأدىء الرأي، وهي الظنون التي تخطر للإنسان من أول نظرة، وكان يظهر في بادئ الرأي أن اسم الإرادة إنما يطلق على من يقدر أن يفعل الشيء وضده، رأوا أنهم إن لم يضعوا أن الموجودات جائزة، لم يقدروا أن يقولوا بوجود فاعل مريد. فقالوا: إن الموجودات كلها جائزة، ليثبتوا من ذلك أن المبدأ الفاعل مريد. كأنهم لم يروا الترتيب الذي في الأمور الصناعية ضرورياً، وهو مع ذلك صادر عن فاعل مريد، وهو الصانع.

وهؤلاء القوم غفلوا عما يدخل عليهم من هذا القول من نفي الحكمة عن الصانع، أو دخول السبب الاتفاقي في الموجودات: فإن الأِشياء التي تفعلها الإرادة، لا لمكان شيء من الأشياء، أعني [لا] لمكان غاية من الغايات، هي عبث ومنسوبة إلى الاتفاق. ولو علموا كما قلنا، أنه يجب من جهة النظام الموجود في أفعال الطبيعة أن تكون موجودة عن صانع عالم، وإلا كان النظام فيها بالاتفاق، لما احتاجوا أن ينكروا أفعال الطبيعة، فينكروا جنداً من جند الله تعالى التي سخرها الله تعالى لإيجاد كثير من موجوداته بإذنه ولحفظها.

الكشف عن مناهج الأدلة (90 - 93)

المسألة الخامسة والعشرون: إنكارهم لطبائع الأشياء

وقال ابن رشد: هذه مزلة ممن ينسب إلى العلم أن العلم يأتي بمثل هذا التشبيه الباطل والعلة الكاذبة في كون النفوس مستشنعة لقسمة الفعل إلى الطبع وإلى الإرادة. فإن أحداً لا يقول نظر بعينه وبغير عينه , وهو يعتقد أن هذا قسمة للنظر , وإنما يقول نظر بعينه تقريراً للنظر الحقيقي , وتبعيداً له من أن يفهم من النظر المجازي. ولذلك قد يرى العقل أنه إذا فهم من رآه أنه المعنى الحقيقي من أول الأمر , أن تقييده النظر بالعين قريب من أن يكون هدراً. وأما إذا قال: فعل بطبعه وفعل باختياره , فلا يختلف أحد من العقلاء أن هذه قسمة للفعل. ولو كان قوله فعل بإراداته مثل قوله نظر بعينه لكان قوله فعل بطبعه مجازاً. والفاعل بالطبع أثبت فعلاً في المشهور من الفاعل بالإرادة , لأن الفاعل بالطبع لا يخل بفعله , وهو يفعل دائماً والفاعل بالإرادة ليس كذلك , ولذلك لخصومهم أن يعكسوا عليه عليهم فيقولوا: بل قوله فعل بطبعه هو مثل قوله نظر بعينه , وقوله فعل بإرادته مجاز, سيما على مذهب الأشعرية الذي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير