فظهر أن تلك الآيات لا تدل على نفي دخول الأعمال في حقيقة الإيمان، بل غاية ما فيها التركيز على أهمية الإيمان القلبي الذي بدوره يثمر الإيمان بالقيام بأعمال الشرع الظاهرة، أو أنها أسندت إلى القلوب باعتبار أنها هي المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وأما ما استدل به المرجئة من النصوص التي تدل على أن من اجتنب الشرك دخل الجنة-سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة النبوية فإن الجواب على ذلك:
"إن هذه النصوص تفيد أن من لم يقع في الشرك مع التوبة والقيام بأمر الله والانتهاء عن نهيه-أن الله يغفر له الذنوب التي هي دون الشرك، فإذا مات على بعض الذنوب يرجى له المغفرة ابتداء، أو يعاقبه الله بذنبه ثم يدخله الجنة، كما هو مذهب السلف في أهل الذنوب حسب ما تفيده النصوص من الكتاب والسنة.
كما أنه لا يقع من شخص عرف التوحيد وأخلص لربه أنه لا يأتي بالأعمال الأخرى التي أوجبها الإسلام، بحيث يكتفي بابتعاده عن الشرك ثم يركن إلى ذلك لدخوله الجنة، فاتضح أن هذه الآيات لا تدل عن إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو التصديق بالقلب أن هذه الآيات لا تدل على إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو القلب كما يرى المرجئة، بل هي واردة في حكم من مات تائباً أو لم تكن عليه معاص، أو كانت عليه معاص ومات على التوحيد، بحيث كان آخر كلامه في الدنيا: لا إله إلا الله".
وما فهموه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"التقوى ها هنا" بأن الإيمان والكفر محلهما القلب، ولا عبرة بعمل جارح- فهو فهم غير سديد من جهة نفي دخول الأعمال الظاهرة إذا لم تثمر القيام بأعمال الإيمان الظاهرة فهي ليست تقوى صحيحة. وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن الإيمان هو مجرد التصديق والإقرار بالقلب فقط دون أن يرى أثر ذلك في الأعمال كلها.
وقد جرهم إلى هذا الفهم أمر لم يتقبلوه وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة يعبر عن الإيمان بأعمال القلب ومرة بأعمال الجوارح ومرة بكليهما، فمن وقف على جانب دون آخر من هذه المراتب فقد قصر ولم يلتزم الحق واختلط الأمر عليه.
وأما احتجاجهم بقولهم: إن الكفر ضد الإيمان فحينما ثبت الكفر انتفى الإيمان والعكس.
فإنه يقال لهم: إطلاق القول بأن كل كفر هو ضد الإيمان ويخرج من الملة مطلقاً ليس صحيحاً على إطلاقه هكذا إلا عند الخوارج في حكمهم على أصحاب المعاصي بالكفر المخرج من الملة، فإن الإيمان درجات، وهو اسم مشترك يقع على معان كثيرة، منها ما يكون الكفر ضداً له، كأن يعتقد الكفر ويعمل به ويدعو إليه فكفره اعتقادي وهو ضد الإيمان ولا نزاع في هذا.
ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر، كترك بعض الأعمال المفروضة مع الاعتراف بوجوبها. ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق، كترك بعض الأعمال التي هي تطوع إذ لا يصح تسمية التارك لها كافراً ولا فاسقاً وإنما يسمى تاركاً ومفرطاً في حق نفسه لعدم قيامه بتلك الأعمال التي تزيد في إيمانه.
وقد يطلق السلف التسمية بالكفر على بعض من يعمل أعملاً جاء الشرع بإطلاق الكفر عليها ولكنهم يسمونه كفراً عملياً لا اعتقادياً حتى تقام الحجة على صاحبه، كالذنوب التي وردت النصوص بإطلاق الكفر على أهلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر في حق من لم يجحد النصوص الواردة في تحريمها قبل إقامة الحجة عليه ببيانها، فإن السلف يطلقون عليه الكفر تمشياً مع النصوص، ثم يفصلون بعد ذلك فإذا استحلها ولم يعترف بوجوبها وردَّ النصوص فهو كافر كفراً اعتقادياً ظاهراً وباطناً.
وأما ما استدلوا به من ورود نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان، وأن المعطوف والمعطوف عليه بينهما مغايرة وفرق وإلا لما عطف عليه، فالواقع أن النصوص كما يتضح منها، أحياناً يرد فيها ذكر الإيمان في حالة العطف بمعنى الدين وذلك في حال إطلاق الإيمان وحده، فإنه يدخل فيه الأعمال، فإذا أطلق لفظ الإيمان فقط تبادر إلى الذهن أن المقصود بذلك الإيمان القلبي وعمل الجوارح والنطق باللسان ولا يفهم منه التصديق فقط أو الإقرار فقط إلا عند المرجئة، حيث تكلفوا دعوى وقوع ذلك.
¥