إن كلمة الجسمية لله تعالي نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة التي لم ترد في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، وهي تخفي وراءها هدفا ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم؛ لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلي بيان وتوضيح ممن يقول به؛ لأنه لم يرد في الشرع لا بالنفي ولا بالإثبات، ولهذا كان في إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد.
وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمة الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال:
"واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمي في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعاً.
والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويري بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالي وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً".
إلي أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلي السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.
وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه".
فينبغي للعاقل أن يتفطن لكلام أهل الزيغ ونبزهم لعلماء السنة تنفيراً للعامة عنهم، كما أنه يجب على المؤمن ألا ينساق وراء مغالطات أصحاب البدع، فهم من دأبهم قلب الحقائق والتلبيس على الناس لتقوية ما اقتنعوا به من أفكار الملاحدة وفلاسفة اليونان.
2 - قول الجهمية بالإرجاء والجبر:
لقد كان الجهم بن صفوان مؤسساً حقيقياً لكثير من الشبهات في الدين، ومؤججاً لكثير من الفتن بين المسلمين بفعل من جاء بعده ممن راقت في نظره آراء جهم، ويظهر الإرجاء عند الجهمية في تلك الآراء التي نادى بها الجهم، ومن أهمها عدم اعتبار العلم من الإيمان، فإن الإيمان وحقيقته في نظرهم إنما هو مجرد الإقرار بالقلب ولا قيمة للعمل في الإيمان؛ ولهذا سارع أصحاب الفسق والاستهتار بالقيم إلى التمسك بهذا المذهب؛ لأنه يساير رغباتهم ويثبت لهم الإيمان بغض النظر عن جميع المعاصي التي يرتكبونها، فهم مؤمنون كاملو الإيمان بالمفهوم الجبري والإرجائي، فهم لا يمكن أن يطلقوا الكفر على أحد بسبب ترك الأعمال التي أمر الله بها، بل لا يتجاسرون على إطلاق الكفر إلا إذا لم يقر بقلبه حسب زعمهم.
وقد قام أساس إرجاء الجهمية على موقفهم من حقيقة الإيمان وفي مبحث المرجئة دراسة حول المرجئة وموقفهم من الإيمان، وأنه المعرفة فقط وأنه كذلك لا يزيد ولا ينقص، ومن العمل وأنه لا صله له بالإيمان، ومن مرتكب الكبيرة،، وأن الذنوب لا تعلق لا بالإعتقاد وإنما هي تابعة للأعمال، وبالتالي فلا أثر لها على الإيمان الذي في القلب فهونوا المعاصي وشجعوا علي الركون إلي الكسل والخمول في العبادات.
¥