ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا أخر لها لأن الله وحده هو الأول والآخر.
وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أرا د الله البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيبا لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد.
قال تعالى: {?وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} أي غير منقطع إلا إذا شاء الله أن يقطعه، فقوته فوق ذلك، ولكن أخبر عز وجل أنه لم يشأ أن ينقطع أبدا فيجب تصديق ذلك: ? {ومن أصدق من الله قيلا}.
وقال تعالى: ? (وما هم منها بمخرجين، " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) "، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في إثبات هذا المفهوم.
وقد جاءت السنة بتأكيد ثبوت وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل في أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: ?من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، وقوله صلى الله عليه وسلم: ?ينادي مناديا يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا.
وورد عن ذبح الموت بين الجنة والنار ثم يقال: ?يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، والمذبوح هنا ليس هو ملك الموت كما يظن البعض حاشاه من ذلك، وإنما المذبوح هو الموت نفسه على صورة كبش أملح، لأن الموت مخلوق والحياة مخلوقة كما أخبر الله تعالى.
وعن دوام النار يقول الله تعالى: " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "، وقال تعالى: (خالدين فيها أبدا، ?وما هم بخارجين من النار، ? {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} فهذه النصوص تثبت بجلاء دوام الجنة والنار, وأن المنكرين ذلك ليس لهم أي دليل إلا مجرد الاستبعاد وهو ليس بدليل، وإلا ما قاسوه بأخيلتهم الضعيفة.
الفصل الخامس
ما الحكم على الجهمية؟
يتورع السلف كثيرا عن إكفار أي جماعة أو شخص، ويرهبون إطلاق التكفير، فلا يتسرعوا فيه كما تفعل الفرق المبطلة في تكفير الناس أو في تكفير بعضهم بعضا أيضا، إلا أن السلف لا يتورعون عن إطلاق كلمة الكفر على من جاءت النصوص بتكفيرهم أو بتسميتهم كفارا، عملا بالنصوص ووقوفا عند مفهومها الصحيح. ومن هنا تجد أن السلف حينما يطلقون الكفر على فرد أو جماعة لهم ضوابط قوية ودرجات في التكفير، من لا يفطن لها وقع - ولابد - في الخطأ سواء أكان خطأ شرعيا أم خطأ في مفهومه للتكفير عند السلف.
ولهذا نجد أن كثير من العلماء يقعون في الخطأ حينما يحكون مذاهب السلف وهم على غير دراية كافية بمفاهيمهم ومصطلحاتهم.
أما بالنسبة لتكفير الجهمية بخصوصهم، فإنك ستجد أيها القارئ الكريم أن كلام الناس مختلف في إطلاق الكفر على الجهمية، فهناك من يهاجمهم ويحكم بكفرهم ويسوق المبررات لذلك، وهناك من يدافع عنهم ويأتي أيضا بمبررات.
ولقد ذهب كثير من علماء السلف إلى تكفير الجهمية وإخراجهم من أهل القبلة، ومن هؤلاء الإمام الدارمي أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، فقد جعل في كتابه - " كتاب الرد على الجهمية " - بابا سماه باب الاحتجاج في إكفار الجهمية "، وبابا أخر سماه " بابا قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم ".
وأورد تحت هذين البابين أدلة كثيرة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية، ومن الآثار وأقوال العلماء ما يطول ذكره، وحاصلة أن الجهمية كفار للأمور الآتية:
قال الدارمي: " ونكفرهم أيضا بكفر مشهور "، ثم ذكر من ذلك قولهم بخلق القرآن، وتكذيبهم لما أخبر الله تعالى أنه يتكلم متى شاء وكلم موسى تكليما، وهؤلاء ينفون عنه صفة الكلام فيجعلونه بمنزله الأصنام التي لا تتكلم، ثم بكفرهم في عدم إثباتهم لله تعالي ما أثبته لنفسه من الصفات: كالوجه والسمع والبصر والعلم والكلام. وبكفرهم في أنهم لا يدرون أين الله تعالى ولا يصفونه بإين ولا يثبتون له مطلق الفوقية الثابتة بالنصوص الصريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ".
كما أورد الدارمي جملة من أسماء الذين حكموا بكفر الجهمية صراحة، ومنهم: سلام بن أبي مطيع، وحماد بن زيد، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، ووكيع، وحماد بن أبي سليمان، ويحي بن يحيى، وأبو توبة الربيع ابن نافع، ومالك بن أنس.