تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما علي قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها فعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة

ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدي وبيانا للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم أو عن كونه أمر ونهي ووعد وتوعد أو عما أخبر به عن اليوم الآخر ـ لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين

وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به

فيبقي هذا الكلام سدا لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلا عن أن يبينوا مرادهم

فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد

فإن قيل: أنتم تعلمون أن كثيرا من السلف رأوا أن الوقف عند قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 6] بل كثير من الناس يقول: هذا هو قول السلف ونقلوا هذا القول عن أبي بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن الزبير وغير واحد من السلف والخلف وإن كان القول الآخر وهو أن السلف يعلمون تأويله ـ منقولا عن ابن عباس أيضا وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم وما ذكرتموه قدح في أولئك السلف وأتباعهم

قيل: ليس الأمر كذلك فإن أولئك السلف الذين قالوا: لا يعلم تأويله إلا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم ولم يكن لفظ التأويل عندهم يراد به معني التأويل الاصطلاحي الخاص وهو صرف اللفظ عن المعني المدلول عليه المفهوم منه إلي معني يخالف ذلك فإن تسمية هذا المعني وحده تأويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم لاسيما ومن يقول إن لفظ التأويل هذا معناه يقول: إنه يحمل اللفظ علي المعني المرجوح لدليل يقترن به وهؤلاء يقولون: هذا المعني المرجوح لا يعلمه أحد من الخلق والمعني الراجح لم يرده الله

وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراده الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالي {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53] وقال تعالي {ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59] وقال يوسف {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] وقال يعقوب له {ويعلمك من تأويل الأحاديث} [يوسف: 6] {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله} [يوسف: 45] وقال يوسف {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37]

فتأويل الكلام الطلبي: الأمر والنهي وهو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه كما قال سفيان بن عيينة: السنة تأويل الأمر والنهي و [قالت عائشة: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم في يقول ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن] وقيل لعروة بن الزبير: فما بال عائشة كانت تصلي في السفر أربعا؟ قال: تأولت كما تأول عثمان ونظائره متعددة

وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها وذلك في حق الله: هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم والكيف مجهول وكذلك قال ابن الماجوشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا تفسيره ومعناه

ولهذا رد أحمد بن حنبل علي الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه علي غير تأويله فرد علي من حمله علي غير ما أريد به وفسر هو جميع الآيات المتشابهة وبين المراد بها

وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون: إن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وكذلك لا يعلمون كيفية الغيب فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر علي قلب بشر فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعني فهذا حق

وأما من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه إلا الله فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله وقالوا: إنهم يعلمون معناه كما قال مجاهد: عرضت المصحف علي ابن عباس من فاتحته إلي خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال ابن مسعود: ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت وقال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها

ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم الدين كما قال مسروق: ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه وقال الشعبي: ما ابتدع قوم بدعة إلا في كتاب الله بيانها وأمثال ذلك من الآثار الكثيرة المذكورة بالأسانيد الثابتة مما ليس هذا موضع بسطه.

(درء تعارض العقل والنقل 1\ 115)

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير