تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذه الحجة أوضحها أيضاً بواضح العبارة الإمامُ أبو جعفر محمدُ بن جريرٍ الطبريُّ رحمه الله تعالى، فقال بعد أن ذكرَ الاختلاف في القرآن: " والصوابُ في ذلك من القول عندنا قولُ من قال: ليس بخالقٍ ولا مخلوق، لأن الكلام لا يجوزُ أن يكون كلاماً إلا لمتكلمٍ، لأنه ليس بجسمٍ فيقومُ بذاته قيامَ الأجسام بأنفُسِها، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك أنه غير جائز أن يكون خالِقَاً، بل الواجِبُ إذ كان ذلك كذلك أن يكون كلاماً للخالقِ.

وإذ كان كلاماً للخالِق وبطلَ أن يكون خالقاً لم [يمكن] (4) أن يكون مخلوقاً، لأنه لا يقومُ بذاتِه وأنه صفةٌ، والصفاتُ لا تقوم بأنفسها، وإنما تقومُ بالموصوف بها، كالألوانِ والطُّعُوم والأراييح والشمِّ، لا يقوم شيءٌ من ذلك بذاته ونفسِهِ وإنما يقوم بالموصوفِ به، فكذلك الكلامُ صفةٌ من الصفاتِ لا تقُوم إلا بالموصُوفِ بها.

وإذ كان ذلك كذلك صحَّ أنَّهُ غيرُ جائزٍ أن يكونَ صفةً للمخلوقِ والموصوفُ بها الخالق، لأنه لو جاز أن يكونَ صفةً لمخلوق والموصوفُ بها الخالقُ، جاز أن يكونَ كلُّ صفةٍ لمخلوقٍ فالموصوفُ بها الخالق، فيكونُ إذ كان المخلوق موصوفاً بالألوان والطعوم والأراييح والشم والحركة والسكونِ أن يكُونَ الموصوف بالألوان وسائر الصفات التي ذكرنا الخالقُ دون المخلوق؛ في اجتماع جميعِ الموحدين من أهل القبلة وغيرهم على فسادِ هذا القول ما يوضحُ فسادَ القولِ بأنَّ يكون الكلامُ الذي هو موصوفٌ به ربُّ العزة كلاماً لغيرِه " (5).

وقال ابن القيم في ذكر مذهب أهل الحديث في مسألة الكلام:

وكذا كلامٌ من سوى متكلم = أيضاً محالٌ ليس في إمكانِ

إلا لمن قام الكلام به فذا = ك كلامه المعقولُ في الأذهانِ

أيكون حيٌّ سامعاً أو مبصراً = من غير ما سمعٍ وغير عِيَان

والسمعُ والإبصارُ قام بغيره = هذا المحالُ وواضحُ البُهتَانِ

وكذا مريدٌ والإرادَةُ لم تَكُن = وصفاً لهُ هذا من الهذيانِ

وكذا قديرٌ ماله من قُدرَةٍ = قامت به من أوضحِ البُطلانِ (6)

ولهذا ألزم أهلُ السنة الجهميةَ بمقتضى هذه الحجة، بأن يكون كلامُ الخلق حقُّه وباطِلُه عينَ كلام الله سبحانه، قال ابن القيم:

أوليسَ قد قام الدَّليلُ بأنَّ أفعـ = ـالَ العبادِ خليقةُ الرحمنِ

من ألفِ وجهٍ أو قريبِ الألف يُحصِيـ = ـها الذي يُعنَى بهذا الشَّانِ

فيكونُ كلُّ كلامِ هذا الخلقِ = عينَ كلامِهِ سبحانَ ذي السُّلطانِ

إذ كان منسوباً إليه كلامُه = خلقاً كبيتِ الله ذي الأركانِ

هذا ولازمُ قولكم قد قالَهُ = ذو الاتحادِ مُصرحاً ببيانِ (7)

حذر التناقُض إذ تناقضتم ولكـ = ـن طرده في غايةِ الكفرانِ (8)

وهذه الحجة العقلية عينها، كان أئمة الأشعرية يستدلون بها، وربما يصوغُونَهَا بسبرٍ وتقسيمٍ، فيقولون: " لو كان مخلوقاً لم يخلُ أن يكونَ خلقه في نفسِه أو في غيره أو في غير شيء، ولا يجوزُ أن يكون مخلوقاً في نفسه لأن ذاتَه لا تقومُ بها المخلوقاتُ والحوادثُ يتعالى عن ذلك عُلوَّاً كبيراً، ولا يجوزُ أن يكون خلقاً في غيرِه لأنه لو كان خلقَهُ في غيرِه لكان ذلك الغيرُ إلهاً آمرَاً ناهِياً قائلاً: يا موسى ... ، وهذا محالٌ باطلٌ، ولا يجوزُ أن يكون خلقَهُ في غيرِ شيء لأنَّهُ يؤدِّي إلى وجودِ كلامٍ من غير مُتكلِّمٍ، وهذا محالٌ.

فإذا ثبت بطلانُ هذه الثلاثة الأقسام لم يبقَ إلا أنه [غيرُ] (9) مخلوقٍ، بل هو صفةٌ من صفاتِ ذاته ... " (10).

وقد ناقض الأشعرية استدلالهم هذا في موضعين:

الموضعِ الأول: في تسميتهم الله تعالى خالقَاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً ومحسناً، وجعلهم وجعلهم الخلق والرزق والإحياء والإماتة من صفات الله تعالى – ويسمُّونَها الصِّفَات الفعليَّة -، ومنعِهم أن يقومَ به شيءٌ من هذه المعانِي!.

قال ابن تيمية بعد كلامه السابق: " والجهميَّةُ والمعتزلة عارضُوا هذا بالصفاتِ الفعليةِ، فقالوا: إنه كما أنَّهُ خالقٌ عادلٌ بخلقٍ وعدلٍ لا يقومُ بهِ، بل هو موجود في غيرِه، فكذلك هو مُتكلِّمٌ مريدٌ بكلامٍ وإرادة لا تقومُ به بل يقومُ الكلام بغيره.

فمن سلَّم لهم هذا النقض - كالأشعري ومن اتَّبعهُ من أصحاب مالك والشافعيِّ وأحمد - أظهر تناقضَهم، ولم يجيبوهم بجوابٍ مُستقيم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير