قالَ الرازيُّ: وَقَالَ قَوْمٌ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قِسْمَانِ مُنْدَرِجَانِ تحتَ قولِهِ: {فِي صُدُورِ النَّاسِ}. لأنَّ القدرَ المشتركَ بينَ الجنِّ وَالإِنسِ سُمِّيَ إِنْسَاناً، وَالإِنسانُ أيضًا سُمِّيَ إِنْسَاناً، فَيَكُونُ لفظُ الإِنسانِ وَاقِعاً على الجنسِ وَالنوعِ بالاشتراكِ.
والدليلُ على أنَّ لفظَ الإِنسانِ يَنْدَرِجُ فيهِ لفظُ الإِنسِ وَالجنِّ ما رُوِيَ أَنَّهُ جاءَ نَفَرٌ مِنَ الجنِّ، فَقِيلَ لهم: مَنْ أَنْتُمْ؟ قالُوا: نَاسٌ مِنَ الجنِّ.
وَأيضاً قدْ سَمَّاهُم اللَّهُ تَعَالَى رِجَالاً في قولِهِ: {وأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المرادُ أَعُوذُ بِرَبِّ الناسِ مِنَ الوسواسِ الخنَّاسِ الذي يُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ ومِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ، كأنَّهُ اسْتَعَاذَ رَبَّهُ مِنْ ذلكَ الشيطانِ الواحدِ ثمَّ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنْ جميعِ الجِنَّةِ وَالناسِ.
وَقِيلَ: المرادُ بِ {النَّاسِ} النَّاسِي، وَسَقَطَتِ الياءُ كَسُقُوطِهَا فِي قَولِهِ: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ}. ثمَّ بَيَّنَ بـ {الْجِنَّةَ وَالنَّاسِ}؛ لأنَّ كُلَّ فردٍ مِنْ أفرادِ الفَرِيقَيْنِ فِي الغالبِ مُبْتَلًى بالنسيانِ.
وأحسنُ مِنْ هَذَا أنْ يكونَ قولُهُ: {وَالنَّاسِ} مَعْطُوفاً على {الوَسْوَاسِ} أيْ: مِنْ شرِّ الوَسْوَاسِ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ، كأنَّهُ أُمِرَ أنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالإِنسِ، قَالَ الحسنُ: أمَّا شيطانُ الجنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مُبَاشَرَةً، أمَّا شيطانُ الإِنسِ فَيَأْتِي عَلانِيَةً.
وقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ مِنَ الجنِّ شَيَاطِينَ، وَإِنَّ مِنَ الإِنسِ شياطينَ، فَنَعُوذُ باللَّهِ مِنْ شياطينِ الجنِّ وَالإِنسِ، وَقيلَ: إِنَّ إِبليسَ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الإِنسِ.
وَوَاحِدُ الجِنَّةِ جِنِّيٌّ، كَمَا أَنَّ وَاحِدَ الإِنسِ إِنْسِيٌّ، وَالقولُ الأوَّلُ هُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الأقوالِ وَإِنْ كانَ وَسْوَسَةُ الإِنسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ لا تَكُونُ إِلاَّ بالمَعْنَى الذِي قَدَّمْنَا، وَيَكُونُ هَذَا البَيَانُ تَذَكُّرَ الثَّقَلَيْنِ للإِرشادِ إِلى أنَّ مَنِ اسْتَعَاذَ باللَّهِ مِنْهُمَا ارْتَفَعَتْ عَنْهُ مِحَنُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). [فتح البيان: 15/ 467 - 469]
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الجَاوِيُّ (ت: 1316هـ): ({الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}، أيْ: في قُلُوبِ الغَافِلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وسُقُوطُ اليَاءِ عَنِ النَّاسِ كَسُقُوطِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القَمَرُ: 6].
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بَيَانٌ للنَّاسِي عَنْ ذِكْرِ اللهِ فإنهما النَّوْعَانِ المَوْصُوفَانِ بنِسْيَانِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى، وعَلَى هَذَا لا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ بَعْضِ العُلَمَاءِ مِنْ جَعْلِ قَوْلِهِ: {مِنَ الْجَنَّةِ} بَيَانًا لِلْوَسْوَاسِ، وجَعْلِ قَوْلِهِ: {وَالنَّاسِ} عَطْفًا عليه، فكَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ، وهو الجِنُّ ومِنْ شَرِّ النَّاسِ اهـ. ومن جَعْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} عَطْفًا عَلَى {الْوَسْوَاسِ} بتَقْدِيرِ حَرْفِ العَطْفِ. فالمَعْنَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنَ الْوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ومِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ، كَأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الوَاحِدِ، ثُمَّ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنْ جَمِيعِ الجِنَّةِ والنَّاسِ). [مراح لبيد: 2/ 684]
قالَ مُحَمَّد عَبْدُه المصريُّ (ت: 1323هـ): (وقد وَصَفَ اللهُ الوَسْواسَ الخَّنَّاسَ بقَوْلِهِ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} مِنَ الجِنَّةِ والناسِ بَيَانُ الذي يُوَسْوِسُ، أو بَيَانُ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ.
¥