تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالمُوَسْوِسونَ قِسْمانِ؛ قِسْمُ الجِنَّةِ، وهمُ الخَلْقُ المُسْتَتِرونَ الَّذينَ لا نَعْرِفُهم، وإِنَّمَا نَجِدُ في أَنْفُسِنا أَثَرًا يُنْسَبُ إليهم، ولكُلِّ واحِدٍ مِنَ النَّاسِ شَيْطانٌ، وهي قُوَّةٌ نازِعَةٌ إلى الشَّرِّ يَحْدُثُ منها في نَفْسِهِ خَواطِرُ السُّوءِ، وإِنَّمَا جَعَلَ الوَسْوَسَةَ في الصُّدُورِ على ما عُهِدَ في كَلامِ العَرَبِ من أنَّ الخَواطِرَ في القَلْبِ، والقَلْبُ مِمَّا حَواهُ الصَّدْرُ عندَهم.

وكَثِيرًا ما يُقالُ: إِنَّ الشَّكَّ يَحُوكُ في صَدْرِهِ، وما الشَّكُّ إلاَّ في نَفْسِهِ وعَقْلِهِ، وأَفاعِيلُ العَقْلِ في المُخِّ، وإنْ كانَ يَظْهَرُ لها أَثَرٌ في حَرَكاتِ الدَّمِ وضَرَباتِ القَلْبِ وضِيقِ الصَّدْرِ أو انْبِساطِهِ، وكُلُّ ما أَوْرَدُوهُ في خُرْطومِ الشَّيْطانِ وخَطْمِهِ ومِنْقارِهِ وجُثُومِهِ على الصَّدْرِ أو القَلْبِ ونَحْوِ ذلك، فهو مِنَ التَّمْثِيلِ والتَّصْوِيرِ، وإلاَّ فليَجْعَلوا مِثْلَ ذلك للقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الوَسْواسِ أو المُوَسْوِسينَ، وهمُ النَّاسُ، فإنَّ اللهَ نَسَبَ الوَسْوَسَةَ إليهم على السَّواءِ فقالَ: {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فليَكُنْ للنَّاسِ الَّذين يُوَسْوِسونَ في صُدورِ النَّاسِ خُرْطُومٌ وخَطْمٌ ومِنْقارٌ يَدْخُلُ في الصُّدُورِ ويُوضَعُ على أُذُنِ القَلْبِ، فإذا ذُكِرَ اللهُ خَنَسَ الخُرْطومُ كما ذَكَروهُ في الجِنَّةِ، ولكِنَّهم يُكْثِرونَ الوَصْفَ ويَخْتَرِعونَ ما يَشَاءُونَ بأَوْهامِهم فيما لا يَراهُ النَّاسُ، وإنْ كانوا لا يَعْقِلُونَهُ ويَجْتَرِئونَ على الغَيْبِ فيَذْكُرونَ من شُئُونِهِ ما اسْتَأْثَرَ اللهُ بعِلْمِهِ، ثُمَّ لا يَكْفِيهم ذلك حتى يَخْتَرِعوا مِنَ الأَحادِيثِ ما يُسْنِدُ أَوْهامَهم ويَنْسُبونَ إلى السَّلَفِ ما يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُقَوِّي مَزاعِمَهم، واللهُ يَشْهَدُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والسَّلَفَ الصَّالِحَ بَرَاءٌ مِمَّا يُنْسَبُ إليهم من ذلكَ كُلِّهِ، وإِنَّمَا هو من اخْتِراعِ مَن لم يَرْضَ لنَفْسِهِ أنْ يَقْتَرِفَ جَرِيمَةً واحِدَةً جَرِيمَةَ الجُرْأَةِ على الغَيْبِ بوَهْمِهِ حتى يَضُمَّ إلى ذلك جَرِيمَةَ الكَذِبِ على رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وسَلَفِ الأُمَّةِ، أولئك الَّذين إذا انْجَرَّ القَوْلُ بهم إلى ما يَعْرِفُهُ النَّاسُ ويُمَكِّنُهم أنْ يُكَذِّبوهم فيه سَكَتوا سُكوتَ البُكْمِ، ولَجَئُوا إلى سِلاحِهم الَّذي يَشْرَعونَهُ في وُجوهِ الجُبَناءِ، وقالوا: هكذا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، كأنَّ السُّنَّةَ عندَهم مَذْهَبٌ جِسْمانِيٌّ مَحْضٌ لا شائِبَةَ مِنَ الرَّوْحانِيَّةِ فيه، وافَتَرُوا على أَهْلِ السُّنَّةِ وهمُ السَّلَفُ ما لا يَعْرِفونَهُ، وماذا عليهم لو أَخَذُوا السُّنَّةَ والكِتابَ ونَظَروا إلى الدِّينِ جُمْلَةً وفَسَّروا بَعْضَ نُصُوصِهِ ببَعْضٍ كما هو الواجِبُ على المُسلِمِ الذي يُؤمِنُ بالكِتابِ كُلِّهِ، وليس مِنَ الذين يُؤمِنُونَ ببَعْضِ الكِتابِ ويَكْفُرونَ ببَعضٍ؟

نَعُوذُ باللهِ مِنَ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ الذي يُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ مِنَ الجِنَّةِ والناسِ. واللهُ أَعْلَمُ). [تفسيرُ جُزءِ عَمَّ: 189 - 190]

قالَ مُحَمَّدُ جَمَالُ الدِّينِ القَاسِمِيُّ (ت: 1332هـ): (وقولُهُ تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانٌ للذي يُوَسْوِسُ، على أنَّهُ ضَربَانِ: ضَرْبٌ مِن الْجِنَّةِ، وهم الخلْقُ الْمُسْتَتِرونَ الذينَ لا نَعرِفهم، وإنَّما نَجِدُ في أنْفُسِنا أثراً يُنْسَبُ إليهم، وضَرْبٌ مِن الإنسِ؛ كالْمُضَلِّلِينَ مِنْ أفرادِ الإنسانِ، كما قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}، وإيحاؤُهم هوَ وَسْوَسَتُهم.

قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: فإنْ قَيل: فإنْ كانَ أصْلُ الشرِّ كُلِّهِ مِن الوَسواسِ الْخَنَّاسِ، فلا حَاجَةَ إلى ذِكْرِ الاستعاذةِ مِنْ وَسواسِ الناسِ؛ فإنَّهُ تابعٌ لوَسواسِ الْجِنِّ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير