تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كيف يريد الله شيئًا وهو لا يحبه ولا يرضاه؟

ـ[سعد الخييلي الدوسري]ــــــــ[01 - 05 - 10, 10:04 م]ـ

قال شيخنا وليد بن راشد السعيدان في كتابه الماتع [القول الرشيد في سرد فوائد التوحيد] 1/ 83 ـ 85، تحت الفائدة (28): " هنا سؤال مشهور وهو قولهم: كيف يريد الله شيئًا وهو لا يحبه ولا يرضاه؟

فأقول في جوابه: إن هذا من إقحام النفس فيما لا مدخل لها فيه، ودس للأنف في شيء لا شأن لنا به، فإنه سبحانه: (لا يسأل عن ما يفعل وهم يسألون) وهو من التعدي المحرم، فحق السائل أن يزجر ويعنف عليه، لكن ومع ذلك فإن العلماء - رحمهم الله تعالى - قد أجابوا عنه فشفوا وكفوا فقالوا: إن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره.

فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته لما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.

وأما المراد لغيره فإنه قد لا يكون مقصودًا للمراد ولا فيه مصلحة بالنظر إلى ذاته وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان، وذلك لاختلاف متعلقهما، أي أنه مكروه باعتبار ذاته محبوب باعتبار ما يترتب عليه من المصالح، وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءً، فإنه يتجرعه تجرعًا لا يكاد يسيغه ولكنه يُكره نفسه على ذلك لعلمه بالمصلحة المترتبة على ذلك، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه، فالشيء قد يكون محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه فلا يكون هذا من التعارض في شيء، وأضرب لك مثالاً واحدً على ذلك وهو خلق إبليس الذي هو مادة فساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وسبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، ومع ذلك فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها وإليك بيانها:

فمن ذلك: أنه تظهر للعباد قدرة الرب على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذوات التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا، كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والكفر والإيمان، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه فهو المستحق أن يُعبد لا إله غيره ولا رب سواه.

ومن ذلك: ظهور آثار أسمائه وصفاته القهرية مثل القهار والمنتقم والعدل والضار والشديد العقاب والسريع الحساب وذي البطش الشديد والخافض والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال ولابد من وجود متعلقها ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم تظهر آثار هذه الأسماء.

ومن ذلك: ظهور آثار أسمائه وصفاته المتضمنة لعلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وأنه الرؤوف الكريم البر الرحيم الودود اللطيف، فلو لا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)) رواه مسلم.

ومن ذلك: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بأهل الجنة من أهل النار، وأهل الإيمان من أهل الكفر والعصيان كل ذلك على ما تقتضيه حكمته وعلمه وخبرته.

ومن ذلك: حصول العبودية المتنوعة التي لو لم يخلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه، ومن ذلك عبودية التوبة والرجوع إلى الله تعالى فإنها لم تكن لتحصل لو لم يخلق إبليس الداعي إلى المعصية فيتوب العبد منها فتحصل منه هذه العبودية التي يفرح الله لها فرحًا عظيمًا لائقًا بجلاله وعظمته وغير ذلك.

ومن ذلك: أنه خلقه ابتلاءً لعباده ليميز الخبيث من الطيب وأمرهم بالصبر عن مقارفة الشهوات ووعدهم على ذلك الأجر الذي لا حد له، ولا يتأتى ذلك لو لم يخلق إبليس ويسلطه عليهم فيدعوهم إلى الشهوات فيتحقق منهم الصبر عن ذلك فيعطيهم الثواب الجزيل والأجر العظيم الذي لا حد له ولا غاية} إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب {وغير ذلك من الحكم والمصالح التي لا يحيط بها على وجه الحصر إلا الله تعالى.

ومن الأمثلة أيضًا: قوله تعالى:} ظهر الفساد في البر والبحر {وهذا من جملة إرادة الله الكونية القدرية فهو من هذه الجهة مكروه له - جل وعلا -، لكن باعتبار غاياته والمصالح والحكم المترتبة عليه محبوب كما قال تعالى:} ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون {فصارت الغاية حميدة والعاقبة مرادة لذاتها فاجتمع في هذا الأمر أنه مكروه من جانب ومحبوب من جانب آخر، وكذلك قبض روح عبده المؤمن فإنه من الأشياء التي يكرهها الله تعالى ويتردد فيها ترددًا يليق بجلاله وعظمته إلا أنه يريد بذلك إكرامه بما أعده له في الجنة من النعيم المقيم والدرجات العلى وهو لا يدخلها إلا بالموت، فقبض روح العبد اجتمع فيه الأمران: فهو مكروه من جانب أنه مساءة للعبد، ومحبوب باعتبار أنه سبب للوصول للكرامة والنعيم في الجنة.

والأمثلة كثيرة وبه يتقرر صحة ما ذهب إليه أهل السنة - رحمهم الله تعالى - من التفريق بين الإرادتين والتقديرين، فالإرادة شرعية وكونية، والقدر شرعي وكوني، والله تعالى أعلى وأعلم. "

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير