فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه أو أن يتحدث عنها بلسانه، قلنا: إنك مبتدع ضال، قائل على الله مالا تعلم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه مالا نعلم، قال تعالى:] قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون [[الأعراف: 33]، وقال تعالى:] ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً [[الإسراء: 36].
وهنا قال:] ويبقى وجه ربك [، أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الربوبية أخص ما يكون من أنواع الربوبية، لأن الربوبية عامة وخاصة، والخاصة أخص، وخاص فوق ذلك، كربوبية الله تعالى لرسله، فالربوبية الأخص أفضل بلا شك.
* وقوله:] ذو [: صفة لوجه، والدليل الرفع، ولو كانت صفة للرب، لقال ذي الجلال كما قال في نفس السورة:] تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام [[الرحمن: 78]، فلما قال:] ذو الجلال [، علمنا أنه وصف للوجه.
*] والإكرام [: هي مصدر من أكرم، صالحة للمكرم والمكرم، فالله سبحانه وتعالى مكرم، وإكرامه تعالى القيام بطاعته، ومكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بما أعد لهم من الثواب.
فهو لجلاله وكمال سلطانه وعظمته أهل لأن يكرم ويثنى عليه سبحانه وتعالى وإكرام كل أحد بحسبه، فإكرام الله عز وجل أن تقدره حق قدره، وأن تعظمه حق تعظيمه، لا لاحتياجه إلى إكرامك، ولكن ليمن عليك بالجزاء.
((الآية الثانية: قوله:] كل شيء هالك إلا وجهه [[القصص: 88].
* قوله:] كل شيء هالك [، أي: فان، كقوله:] كل من عليها فان [[الرحمن: 26].
* وقوله:] إلا وجهه [: توازي قوله:] ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [.
فالمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل، فإنه باق، ولهذا قل:] له الحكم وإليه ترجعون [[القصص: 88] فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم.
وقيل في معنى الآية:] كل شيء هالك إلا وجهه [، أي: إلا ما أريد به وجهه. قالوا: لأن سياق الآية يدل على ذلك:] ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه [[القصص: 88]، كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به، لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى، إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى، لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم.
ولكن المعنى الأول أسد وأقوى.
وعلى طريقة من يقول بجواز استعمال المشترك في معنييه، نقول:
يمكن أن نحمل الآية على المعنيين، إذ لا منافاة بينهما، فتحمل على هذا وهذا، فيقال: كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء، إلا ما أريد به وجه الله.
وعلى أي التقديرين، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل.
وهو من الصفات الذاتية الخبرية التي مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، ولا نقول: من الصفات الذاتية المعنوية، ولو قلنا بذلك، لكنا نوافق من تأوله تحريفاً، ولا نقول: إنها بعض من الله، أو: جزء من الله، لأن ذلك يوهم نقصاً لله سبحانه وتعالى.
هذا وقد فسر أهل التحريف وجه الله بثوابه، فقالوا: المراد بالوجه في الآية الثواب، كل شيء يفنى، إلا ثواب الله!
ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال، فسروه بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود، فالثواب حادث بعد أن لم يكن، وجائز أن يرتفع، لولا وعدالله ببقائه، لكان من حيث العقل جائزاً أن يرتفع، أعني: الثواب!.
فهل تقولون الآن: إن وجه الله الذي وصف الله به نفسه من باب الممكن أو من باب الواجب؟
إذا فسروه بالثواب، صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه.
وقولهم مردود بما يلي:
أولاً: أنه مخالف لظاهر اللفظ، فإن ظاهر اللفظ أن هذا وجه خاص، وليس هو الثواب.
ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، فما من السلف أحد قال: إن المراد بالوجه الثواب! وهذه كتبهم بين أيدينا مزبورة محفوظة، أخرجوا لنا نصاً عن الصحابة أو عن أئمة التابعين ومن تبعهم بإحسان أنهم فسروا هذا التفسير، لن تجدوا إلى ذلك سبيلاً أبداً.
ثالثاً: هل يمكن أن يوصف الثواب بهذه الصفات العظيمة:] ذو الجلال والإكرام [[الرحمن: 27]؟! لا يمكن. لو قلنا مثلاً جزاء المتقين ذو جلال وإكرام! فهذا لا يجوز أبداً، والله تعالى وصف هذا الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام.
¥