العقلية معيارا للعلم عامة، و قد كانت بداية ظهور هذا التعارض بداية لظهور النفور و التنفير من الفلسفة اليونانية، ومما كان مدخلا إليها وهو منطقها، وهذا ابتداء من القرن الثاني الهجري، على لسان الأئمة المجتهدين ثم على لسان الفقهاء الذين اقتفوا آثارهم حتى العصور المتأخرة.
إذ ـ بعد نشر كتاب"صون المنطق و الكلام " للسيوطي، ونشر كتابي ابن تيمية" نقض المنطق"و"الرد على المنطقيين" و نشر كتاب " مناهج البحث عند مفكري الإسلام" للدكتور علي سامي النشار ـ لم يعد بإمكان أحد أن يوافق الدكتور إبراهيم مدكور عندما يقول:" لم يعش هؤلاء الفقهاء في عزلة مما حولهم بل قد تأثروا بالفلسفة اليونانية ولاسيما "الأرغانون" الذي وجدوا فيه طرقا صالحة لأبحاثهم الفقهية ":70] إن كان يريد جميع الفقهاء من دون استثناء.
إذ لا حجة له ولمن يرى رأيه في موقف الإمام ابن حزم الأندلسي الذي كان من السابقين إلى نعت المنطق ومدحه إلى حد التوكيد بأن:" من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وجاز عليه من الشغب جوازا لا يفرق بينه و بين الحق ولم يعلم دينه إلا تقليدا و التقليد مذموم" [6] [التقريب لحد المنطق ص:3] باستثناء السلف الصالح الذين متعهم الله بذكاء الذهن و سعة الفهم ومكنهم من فوائد علم المنطق".
و إذا كان الإمام ابن حزم لم يعدم من يعزز رأيه من كبار الفقهاء و أئمة الإسلام من أمثال الإمام الغزالي الذي يجعل هو الآخر من المنطق مقدمة لكل علم ["المستصفى" {10/ 1}] بما في ذلك علم أصول الفقه، فإن ذلك لا يسوغ للدكتور إبراهيم مدكور أن يقول:"إن علماء الكلام و الفقهاء الذين جاؤوا من بعده [الغزالي] قد اقتصروا على اقتفاء أثره ومواصلة عمله" لأن تاريخ كل من علم الكلام و علم الفقه مرصع بمواقف النقد التي عبر بها بعض المتكلمين و بعض الفقهاء عما لا يقبلونه من مسائل فلسفة اليونان و منطقهم المخالفة لأصول عقيدة الإسلام و شريعته.
فلقد تبين لنا في غضون هذا البحث أن كثيرا من الفقهاء ما فتئوا يعيبون الفلسفة اليونانية و ينفرون الناس منها منذ أن عرفوا مخالفتها للشريعة الإسلامية، وهذا من عهد الإمامين مالك و الشافعي إلى العصور المتأخرة، كما أنهم نفروا من المنطق الذي نشأ في أحضان هذه الفلسفة ونفروا الناس منه على أساس أنه مدخل إليها، وليس نقد ابن تيمية للمنطق المشائي سوى صورة من صور مناهضة هذا المنطق التي بدأت قبل ابن تيمية و لم تتوقف بعده.
إلا أن نقد ابن تيمية ليس مثل الانتقادات التي سبقته ولا التي تلته، لأنه جاء نقدا مذهبيا، له أصوله و تصوراته، فكان شاملا مفصلا، بينما كانت الانتقادات الأخرى جزئية أو مقتضبة، و لأنه لم يكن نقدا سلبيا فقط، بل كان نقدا إيجابيا أيضا.
فهو يرى أنه ليس صحيحا أن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالتعريف، لأن التعريف يعتمد على معرفة الصفات الموجودة في الشيء المراد تعريفه، وهي لا تعرف إلا بالحواس الظاهرة أو الباطنة، فلا تكون بالتالي مفتقرة إلى الصياغة اللفظية التي يستمد منها التعريف كيانه، ويرى انه ليس صحيحا أيضا أن يكون الغرض من التعريف هو تصور ماهيات الأشياء، لأن الأشياء لا تعرف بما تتشارك فيه بل بما يختص به كل واحد منها و بما ينفرد به دون سائرها.
ولهذا يرى أن الغرض من التعريف إنما هو تمييز الأشياء بعضها من بعض لأن العبرة في ذلك تكون بما عليه الأشياء في الوجود الخارجي كما يحصل في التجربة الحسية و ليس بما هي عليه في الوجود الذهني المتمثل في حصول المعنى الكلي الذي تزول منه خصائص الأشياء، ومادام هذا التمييز يمكن أن يحصل بصفة واحدة خاصة بالشيء أيا كانت، فإنه لم يعد ضروريا اشتراط وقوع التعريف بالجنس القريب و الفصل النوعي كما يزعم المشاؤون.
كما يرى انه ليس صحيحا أن التصديقات لا تكون إلا بالقياس الشمولي المعتمد على القضية الكلية، لان القضية الكلية لا تحصل في الذهن إلا بواسطة الاستقراء الذي يؤول في حقيقة أمره إلى قياس التمثيل الذي يحكم فيه على الشيء بحكم مثله، فتكون القضايا الجزئية كما تحصل في التجربة الحسية أصلا للمعارف الجزئية التي نظرا لتماثلها يمكن جمعها في صيغة واحدة هي القضية الكلية فتكون القضية الكلية نهاية للاستنتاج و ليست بداية له.
¥