تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

و ليس صحيحا أيضا أن القياس الشمولي هو السبيل الوحيد إلى تحصيل اليقين لأن اليقين سببه مادة القياس، وبما أن النفس أسرع إلى التصديق بالقضايا الجزئية العينية منها إلى التصديق بالقضايا الكلية، فقد باتت القضايا الجزئية كما تحصل في التجربة الحسية أصلا لكل يقين و مصدرا لكل معرفة، وعندئذ لا يعود قياس التمثيل دون قياس الشمول مرتبة و قدرة على إفادة العلم عند اتحاد المادة بينهما.

ووجدنا أن ابن تيمية يلاحظ أن القياس الشمولي لا يصلح للعلم بالموجودات الجزئية الفيزيائية أو الميتافيزيائية كواجب الوجود، لان مبناه على المعاني الكلية التي لا وجود لها إلا في الذهن، والوجود في الأعيان أصح من الوجود في الأذهان و أفضل منه.

و يرى أن جميع أنواع الاستدلالات من قياس و استقراء و تمثيل إن هي إلا صور مختلفة لاستعمال مبدأ أساسي في كل استدلال هو مبدأ اللزوم الملاحظ بين طرفين احدهما اللازم و الآخر الملزوم، فيكون إدراك التلازم بين الشيئين أو الواقعتين كافيا لإحداث العلم بأحدهما عند العلم بالآخر، وللإيحاء بأن احدهما علة في الآخر، و يكون الاستدلال قائما على العلم بالعلة الذي هو علم فطري.

فلا يكون من الضروري إيراد الدليل في صورة القياس الشمولي بل يمكن الاستدلال بالعلة على المعلول، و بالمعلول على العلة استدلالا مباشرا بدون استعمال القضية الكلية و علاقة التداخل، مادامت علاقة التلازم مغنية عن كل ذلك.

وهذا ما جعل ابن تيمية يجد في إثبات ما أنكره المشاؤون دائما وهو أن تكون سلامة الفطرة مغنية عن تعلم صناعة المنطق، إذ مبادئ العقل لا يكتسبها الإنسان بموافقة المشائين، لأنها أساس كل اكتساب وكل حركة يقوم بها العقل، وهي في نفس الوقت أساس المنطق الصناعي، فسلامة الفطرة هي التي تجنب المستدل الوقوع في الخطأ و إن كان غير عارف بقواعد صناعة المنطق، وفساد هذه الفطرة هو الذي يوقع المستدل في الخطأ، و إن كان عارفا بقواعد المنطق، إذن فالعبرة في سلامة الاستدلال إنما هي بسلامة الفطرة لا غير، و هذا أمر يؤكده السلوك العفوي لدى جميع الناس حتى العارفين بالمنطق منهم، فهم لا يستعملون تقنيات القياس في التفكير، بل في تحليل هذا التفكير بعد وقوعه مما يتبين معه أن فائدة المنطق الصناعي فائدة نظرية لا غير.

و قد تبين لنا أيضا أن شيخ الإسلام قد ألح على وجود قدرة فطرية لدى الإنسان بما هو إنسان، يستطيع بها الجمع بين المتفقين و التفريق بين المختلفين و بالتالي إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بحسب ما يجد ذلك في تجربته الحسية الظاهرة أو الباطنة، وليس في كل استدلال إلا الجمع بين المتفقين و التفريق بين المختلفين فيكون الإنسان مزودا بمنطق فطري ليس المنطق الصناعي سوى صورة نظرية له ينحل إليها التفكير ولا يتولد منها.

ووجدنا ابن تيمية يدافع دفاعا واعيا عن المنطق الطبيعي الذي يعمل بمقتضى أصوله العقل السليم، والذي لم يعمل المشاؤون ومن قبلهم المعلم الأول إلا على تعقيده و إلباسه لباسا غير طبيعي من المصطلحات و الصور التقنية، متى عمل المستدل على الالتزام بها اضطرب تفكيره و تعثر تعبيره فيكون المنطق الصناعي أداة لتقييد الفكر، لأن الغرض منه هو النظر في مفرداته لمعرفة الصلات الموجودة بينها، ولمعرفة أسباب لزوم بعضها من بعض أو عدم لزومه، في حين أن المنطق الطبيعي أداة لإحداث التفكير و إجرائه، بل لانبثاقه بصورة عفوية.

فلم يعد المنطق الصناعي في نظر شيخ الإسلام سوى تشويه للمنطق الطبيعي، و إخراج لقوانين الفكر الطبيعية من مجراها السهل إلى مساقها الوعر.

وعندئذ استقر رأي ابن تيمية على أن ما ظنه المشاؤون انه الصورة الوحيدة التي يمكن أن يتصور بها الفكر البشري ليس هو في الحقيقة سوى صورة ضيقة من صور المنطق الطبيعي الكثيرة العدد و الواسعة المجال، فهي تختلف باختلاف المطلوب و باختلاف حاجة المستدل إلى ما يصل به إليه، فقد يكون الدليل على المطلوب قضية واحدة، أو قضيتين أو ثلاثا أو أكثر من ذلك، فأوضاع المستدل هي التي تحدد نوعية الدليل و عناصره و لا تكون الشروط التي وضعها المشاؤون للقياس إلا شروطا أملتها عليهم طبيعة التصورات الميتافيزيائية التي تولدت لديهم من اعتقاداتهم نوع المشاكل التي تولدت من هذه التصورات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير