وعليه، فما عيّنوه من مواد العلم لم يكن مستوعبا لجميع ما عند البشر، لأن البشر علموا إما بالحس أو العقل أو الخبر الصادق من المعارف و العلوم الكثيرة من غير طريقهم ـ وهذا دليل تجريبي حسي، و عقلي استقرائي، ومتواتر يشهده كل الخلق ـ
فتبيّن أنهم كاذبون فيما زعموه من أن طريقتهم محيطة بطرق العلم الحاصل للبشر، و إن لم يعيّنوا مواد العلم، و هذا هو المعروف عن المنطق، فقد بطل أهم جزء في المنطق الصوري.
ومما علمه البشر من غير المنطق ما تلقوه عن الأنبياء صلوات الله عليهم فأراد المناطقة إجراء ذلك على قانونهم الفاسد، فجعلوا علوم الأنبياء تحصل بواسطة القياس المنطقي، فقالوا: النبي له قوة أقوى من قوة غيره في العلم والعمل، وربما سموها " قوة قدسية" كما فعل ابن سينا.
و المقصود بالقوة القدسية قوة حدسية أي علم حدسي بديهي متى تصور طرفي القضية ينتهي إلى النتيجة من غير حاجة إلى الحد الأوسط الذي يعجز غير الأنبياء عن إدراكه بغير تعلم.
لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة، فجعلوا ما تخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي، وهذا في غاية الفساد.
فان القياس المنطقي إنما يعرف به أمور كلية كما تقدم، وهم يسلمون ذلك، والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة كما في القرآن من قصة نوح والخطاب والأحوال التي جرت بينه وبين قومه.
وكذلك هود وصالح وشعيب وسائر الرسل.
وكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من المستقبلات، فعلم بذلك أن ما علمه الرسول لم يكن بواسطة القياس المنطقي.
على كل حال، فإن الفلاسفة عندما أعجزهم علم النبوة قالوا: إن غاية ما عند النبي قياس من جنس القياس الفلسفي، أو خيال من جنس الخيال الصوفي!
ولهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة، وصار كثير منهم يطلب أن يؤتى مثل ما أوتي رسل الله، وأن يؤتى صحفا منشرة، كما طلبه السهروردي المقتول وابن سبعين وغيرهما. ـ وقد ذكر مؤرخو الفلسفة أن أتباع أرسطو انقسموا بعد وفاته إلى قسمين: قسم يئس من فلسفته، وعجز عن تبرير صدور الكثرة عن الواحد فانتحى إلى الفلسفة الطبيعية يشتغل على العناصر و النباتات.
وقسم آخر تشبع بالغنوصية فبدأ يشتغل بالسحر و الشعوذة لتحصيل المعارف الغيبية، وهو ما حصل شيئاً، إنما حصل تلاعب الشياطين به. ـ
وسبب ذلك أن هذه النبوة التي أثبتوها أمرها من جنس منامات الناس.
ولهذا كان عمدتهم في إثبات النبوة هو المنامات، كما هو ثابت في كتبهم في كتب ابن سينا و الغزالي و السهروردي وغيرهم، ليس لهم دليل على النبوة إلا المنامات!. انتهى باختصار وتصرف.
وعليه، فإن إثبات العلم الشرعي بقواعد المنطق الصوري و لغة الفلسفة صعب جدا إن لم يكن مستحيلا، ومن هنا يتبين خطأ الشنقيطي عندما زعم قدرة المنطق على الارتداد على نفسه، ونقض نفسه بنفسه لخدمة النص الشرعي.
بل يحتاج المثبت ليقينية المتواترات خصوصا، و يقينية الدلالة البرهانية للنص الشرعي إلى إحاطة شاملة لمجموع المشروع الفكري الفلسفي، و امتلاك نظرية في المعرفة دقيقة ومفصلة قرآنية المصدر، بحيث تفند تقريرات المنطق في نشوء المعرفة و طرق توصيلها.
إن إشكالية المنطق ليس في نظم أقيسته أو شكلها فهي منتجة يقينا لما وضع فيها، ولكن الإشكال في مواده، ومواد المنطق لم يبحثها الفلاسفة في علم المنطق، لأنه علم تنظيم الفكر لا البحث في مادته.
فالمنطق عند واضعه الأول هو دراسة قوانين الفكر المجرد من كل مضمون بحيث يعالج القياس من حيث هو قياس، ولذلك يسمى بالمنطق الصوري.
فالمنطق الصوري هو علم مطابقة الفكر لذاته لا علم استنباط المعرفة، فهو منتج بمقتضى الصورة بقطع النظر عن المضمون " المواد".
فمواد المنطق بحثوها في علم الوجود "الميتافيزيقا العامة"، و لهذا استحال تخليص المنطق من الميتافيزيقا، وتبيّن مرة أخرى خطأ الشيخ الشنقيطي.
ومواد المنطق فاسدة، بل تقود للزندقة، ومن هنا لم يكن ممكنا استعماله للاستدلال على صحة الشريعة، لأن صحة الاستدلال المنطقي، وهو التنقل بين المقدمات لا يستلزم صدق نتائجه، لأن مواده فاسدة.
¥