فلنذكر: بعض ما نتمسك به في إثبات إمامة "أبي بكر"- رضي الله عنه- ثم نرجع إلى الجواب عن شبهاتهم. فنقول: لنا في المسألة وجوه أخر من الدلائل سوى ما ذكرناه:
الحجة الأولى: التمسك بقوله تعالى: ? وعد الله الّذين آمنوا منكم و عملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم? (النور: الآية 55) فقوله: ? الّذين آمنوا منكم و عملوا الصّالحات? (النور: الآية 55) صيغة جمع. أقلها ثلاثة. فقد وعد الثلاثة فما فوقها من أصحاب محمد عليه السلام أن يستخلفهم في الأرض، و يمكنهم من دينهم، الذي ارتضى لهم. و كل ما وعد الله به، فقد فعله. و لم يوجد إلاّ خلافة الخلفاء الأربعة، فوجب القطع بأنها هي التي وعد الله به في هذه الآية و أثنى عليها و عظمها. و هذا يوجب القطع بصحة خلافة هؤلاء الأربعة.
الحجة الثانية: التمسك بقوله تعالى: ?قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا و إن تتولّوا كما تولّيتم من قبل يعذّبكم عذابا أليما? (الفتح: الآية 16)
وجه الاستدلال بالآية: إن الداعي لهؤلاء الأعراب، إما محمد عليه السلام، و إما أحد الخلفاء الثلاثة- أعني أبا بكر و عمر وعثمان- و إما أن يكون الداعي هو علي رضي الله عنه، و إما أن يكون الداعي من كان بعد "علي".
لا جائز أن يقال: الداعي هو محمد عليه السلام، لقوله تعالى: ? سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم يريدون أن يبدّلوا كلام الله قل لّن تتّبعونا كذلكم قال الله من قبل? (الفتح: الآية 15)
و لا جائز أن يكون المراد هو "علي" لأنه تعالى قال في صفة هذه الدعوة: "تقاتلونهم أو يسلمون" و لم يتفق لعلي بعد النبي عليه السلام قتال بسبب طلب الإسلام، بل كانت محارباته بسبب طلب الإمامة. و لا جائز أن يكون المراد من كان بعد "علي" لأنهم عندنا كانوا على الخطأ، و عند الخصم كانوا على الكفر. و على التقديرين فلا يلق بهم قوله تعالى: ?فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا و إن تتولّوا كما تولّيتم من قبل يعذّبكم عذابا أليما? (الفتح: الآية16).
و لما بطلت هذه الأقسام لم يبق إلاّ أن يكون المراد به: أحد الخلفاء الثلاثة: أعني أبا بكر و عمر و عثمان و على هذا التقدير تكون الآية دالة على صحة خلافة أحد هؤلاء الثلاثة. ومتى صحت خلافة أحدهم، صحت خلافة الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
الحجة الثالثة: لو كانت خلافة أبي بكر باطلة، لما كان ممدوحا معظما عند الله تعالى. و قد كان كذلك، فوجب القطع بصحة خلافته.
أما الملازمة فظاهرة. و الخصم موافق عليه.
و إنما قلنا بأنه ممدوح من عند الله لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ? لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة? (الفتح: الآية 18). و هو ممن كان بايع تحت الشجرة، فوجب أن يكون ممن رضي الله عنه.
و ثانيها: قوله تعالى: ? و السّابقون الأوّلون من المهاجرين و الأنصار و الّذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه? (التوبة: الآية 100). و لا شك أنه كان من السابقين الأولين. فإنا و إن اختلفنا في أنه هل كان إيمانه قبل إيمان الكل؟ إلاّ أن لفظ "السابقين" يفيد كل من كان له سبق في الدين. و لولا أن المراد ذلك، و إلاّ لما دخل فيه الأنصار.
و إذا ثبت أنه من السابقين، وجب أن يدخل تحت قوله: ? رضي الله عنهم و رضوا عنه? (التوبة: الآية 100).
و ثالثها: قوله تعالى: ?و سيجنّبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكّى، و ما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى، و لسوف يرضى? (الليل: 17 - 21).
فنقول: إنه تعالى وصف الشخص المراد من هذه الآية بأنه أتقى. و إذا كان أتقى كان أكرم. لقوله تعالى: ? إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم? (الحجرات: الآية 13) و الأكرم عند الله لا بد و أن يكون أفضل، فثبت أن المراد من هذه الآية شخص هو أفضل الخلق. و أجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد الرسول عليه السلام إما أبو بكر و إما علي فإذن هذه الآية مختصة إمّا بأبي بكر و إما بعلي. لا جائز أن تكون نازلة في حق "علي" لأن الشخص المراد من هذه الآية. موصوف بوصف معين. و هو أنه ليس لأحد عنده من نعمة تجزى. و "علي" ما كان كذلك. لأن عليا إنما نشأ في تربية محمد عليه السلام و طعامه عنده و شرابه. و ذلك نعمة تجزى.
¥