الثقافة ولا مفروضة عليه من خارج" (ص38 - 39، 44 من كتاب مفهوم النص- دراسة فى علوم القرآن/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1993م).
وقبل أن ندخل فى مناقشة تفاصيل هذا الكلام نتساءل: هل كان الجاهليون يسمون وسوسة الشياطين للكهان: "وحيا"، ومن ثم يصح أن يقول نصر أبو زيد إن هناك علاقة بين مفهوم الوحى الجاهلى ومفهوم الوحى فى الإسلام؟ كل ما أورده د. نصر فى هذا الصدد نصان شعريان جاهليان ليس فيهما أدنى إشارة إلى أى وحى (ص39). وهذان هما النصان، ولا أدرى لم أوردهما ما داما لا يحتويان على الشاهد المراد. فأما النص الأول فهو للأعشى، ويتحدث فيه عن قرينه مِسْحَل، أى الشيطان الذى كان يعتقد أنه يساعده فى نظم الأشعار:
وَما كُنتُ شاحِردا وَلَكِن حَسِبتُني * إِذا مِسْحَلٌ سَدَّى لِيَ القَولَ أَنطِقُ
شَريكانِ فيما بَيْنَنا مِن هَوادَةٍ * صَفِيّانِ: جِنِّيٌّ وَإِنسٌ مُوَفَّقُ
يَقولُ فَلا أَعْيَا لِشَيءٍ أَقولُهُ * كَفانِيَ لا عَيٌّ وَلا هُوَ أَخرَقُ
وأما النص الثانى فلبدر بن عامر:
ولقد نطقتُ قوافيًا إنسيةً * ولقد نطقتُ قوافىَ التجنينِ
وهناك شاهد آخر أورده نصر أبو زيد لعلقمة الفحل، لا بمعنى اتصال الجن بالإنس، بل بمعنى حديث الثور الوحشى إلى أبقاره، وشتان الأمران. وهذا هو الشاهد:
يوحي إِلَيها بِإِنقاضٍ وَنَقنَقَةٍ * كَما تَراطَنُ في أَفدانِها الرومُ
ولقد بحثت بنفسى فى الموسوعة الشعرية الإماراتية لعلى أجد شيئا يعضد ما زعمه د. أبو زيد عن تسمية الجاهليين لاتصال الكهان والشعراء بالجن: "وحيا" فلم أجد فى الشعر الجاهلى إلا نصا واحدا لزهير بن جناب الكلبى أتت فيه فعلا كلمة "وحى"، ولكن بمعنى "حديث" الأطلال إلى الشاعر الحزين على فراق حبيبته لا بمعنى وسوسة الجن إلى الإنس كما يقول أبو زيد:
فَكادَت تُبينُ الوَحيَ لَمّا سَأَلتُها * فَتُخبِرُنا لَو كانَتِ الدارُ تَنطِقُ
هذا فى مجال الأسماء، أما فى مجال الأفعال فلم أعثر إلا على البيت الذى ساقه د. نصر لعلقمة الفحل ليس غير. ونخرج من هذا كله أن الأساس الذى أقام عليه نصر حامد أبو زيد دعواه بمشابهة الوحى القرآنى للوحى الكهانى والوحى الشعرى هو أساس منهار لم يكن يصح أن يتخذه مستندا فى مثل هذه القضية الحساسة التى يمكن أن يُزِيغ الأبصارَ فيها كلامُه المندفع غير المسؤول.
ولقد لاحظ القارئ كيف يكرر د. نصر أبو زيد عبارة "ظاهرة الوحى القرآنى"، مع أن القرآن حالة فردية لا تمثل ظاهرة، إذ هو لم ينزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان ظاهرة لرأينا كثيرا من العرب أنبياء يتنزل القرآن عليهم. هذا هو معنى الظاهرة، أما إذا كانت الحالة فردية أو محصورة فى نطاق ضيق فلا تسمَّى: ظاهرة. ترى هل إذا اكتشف السكان مثلا فى مدينة من المدن أن بينهم لصا، هل يقال إن اللصوصية أصبحت تمثل ظاهرة فى مدينتهم؟ هل إذا اكتشف الأطباء فى بلد من البلاد حالةَ فشلٍ كٌلْوِىّ، هل يقال إن هذا المرض صار يشكل ظاهرة؟ واضح أن نصر أبو زيد لا يراعى معانى المصطلحات التى يستعملها، ويترك لنفسه العنان فى استخدامها كما يعنّ له دون تدقيق أو تبصر أو مراعاة لما استقر عليه العُرْف اللغوى والاصطلاحى. لو كان نصر أبو زيد قال إن "الوحى" (الوحى بإطلاق) يمثل ظاهرة لكان كلامه معقولا، فالوحى فعلا يمثل ظاهرة لتكرره وشيوعه فى التاريخ البشرى، إذ ما من أمة إلا وقد ظهر فيها نذير أو أكثر حسبما ينبئنا القرآن المجيد، أما الوحى القرآنى بالذات فهو حالة من الحالات التى تتمثل فيها تلك الظاهرة، لكنه لا يشكل وحده ظاهرة.
أيا ما يكن الأمر فإن كلام أبو زيد يفيد أن مفهوم الوحى فى الإسلام هو انعكاس للفكر الجاهلى. لكن هل جاء الإسلام للعرب وحدهم فاستغل مفهوم الكهانة عندهم ورتب عليه مفهوم النبوة؟ أم كيف يا ترى يفسر انتشار الإسلام فى كل بلاد العالم قديما وحديثا، وهم ليسوا عربا، ومنهم اليهودى والنصرانى والوثنى والمادى، والموحد والمثلث والثنوى والمتشكك، والفارسى والمصرى والتركى والإسبانى والأمريكى والهندى والصينى واليابانى والمكسيكى والأسترالى ... ؟ وبالمثل كيف يفسر تكذيب العرب بالكهانة بعد مجىء الإسلام بل تَرْك كثير من الكهان لكهانتهم إذا كان مفهوم النبوة امتدادا لمفهوم الكهانة؟ كذلك لو كان ما يحاوله أبو زيد من الربط بين الكهانة
¥