تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما مخالفة الحسّ فقولهم: إنّ الله لم يُبدِع عين الإنسان والحيوان، ولا عينَ الثمار والمطر والسحاب، وإنما أحدثَ تأليفًا. وعلى قولهم تلك الجواهرُ التي كانت في بني آدمَ باقية بأعيانها في كلِّ واحدٍ من ولدِه، ومعلومٌ أنّ هذا غير ممكن، فإنَ مَنِيَّ الرجلِ الواحد لا يحتمل أن ينقسمَ أقسامًا بعددِ كلِّ مَن وُلِد من الآدميين. وكذلك عندهم أن كلَّ بني الآدميين فيه جزء من بني نوحٍ، لأنه عندهم لم يُبدِع الله عينًا، بل نفسُ مَنِيِّ الأبِ فيه الجواهر، ركَّبَها تركيبًا آخر، وضَمَّ إليها جواهرَ أُخرَ.

وأما مخالفة العقل فإثباتُ الجوهر الفرد إثباتُ شيء موجودٍ لا يتميز منه شيء عن شيء، فإذا وُضِعَ جوهر بين جوهرينِ، فإن كان الذي يُمَاسُّ هذا الجانب فقد التقَى الجوهران، وإن كان غيره فقد ثبت الانقسام.

وأيضًا فنحنُ نشاهد الهواءَ يستحيل ماءً إذا وُضِعَ في الزجاج، ونحوه ثلج صار عليه ماء يَقطُر، ومعلومٌ أن الثلجَ لم يَثْقُب الزُّجاجَ، بل الهواء الذي أحاطَ به بَردَ فاستحالَ ماءً، كما يُحِيلُ الله سحابًا وماءً. هذا مشهود، يكون الإنسانُ على حَيْدٍ، فيَرى البُخَارَ قد صَعِدَ من البحار فانعقَد سحابًا، وينظر تحته وهو أعلى منه في الشمس على رَأس الجبل. وكذلك الهواءُ يستحيلُ نارًا، فإذا قرّبَ ذُبَالةَ المصباحِ إلى النار أوقدَ، مع أنه لم يخرج من تلك النار شيء، ولكن الهواء المحيط بالذُّبالةِ استحالَ نارًا لمّا سَخُنَ سُخونةً شديدةً. فالهواء يَبْرُدُ فيستحيلُ ماءً، ويَسْخُنُ فيستحيل نارًا.

وكذلك ما يَقْدحُ النار، قال تعالى: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا)، وقال: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ)) الآيات، وقال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ). والعرب يقولون: "في كلّ شجرٍ نار، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ"، يأخذون عُودَينِ أخضرين يَحُكُّون أحدَهما بالآخر حتى يَسْخُن، فإن الحركة تُوجبُ السخونةَ، والسخونةُ تحصلُ بالحركة وبالنار وبالشُّعاع، فإذا سخَنَ انقدحَ منه نارٌ باستحالةِ بعض تلك الأجزاء نارًا، وما كان هناك قبلَ هذا نارٌ، بل سبحانَه يُحدِثُ النارَ عند باقية بعينها، وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة، فقوله خطأ، بل المادة استحالتْ فخُلِقَ منها شيءٌ آخر، والأولى هلكتْ وأعدمَها الله على هذا الوجه، كما أوجدَ ما خلقَ منها على هذا الوجه. وقد بُسِط الكلام على هذا في موضع آخر.

والمقصود الكلامُ على اسمه "القَيُّوم"، والتنبيهُ على بعضِ ما دلَّ عليه من المعارف والعلوم، فهو سبحانَه قَيُّومُ السماوات والأرض، لو أخذَتْه سِنَةٌ أو نومٌ لهلكتِ السماوات والأرض. والمخلوقُ ليس له من نفسِه شيء، بل الربُّ أبدعَ ذاتَه، فلا قِوَامَ لذاتِه بدون الربِّ، والمخلوق بذاتِه فقيرٌ إلى خالقِه، كما أن الخالقَ بذاتِه غنيٌّ عن المخلوق، فهو الأجَل الصَّمَدُ، والمخلوقُ لا يكون إلاّ فقيرا إليه، والخالقُ لا يكون إلاّ غنيّا عن المخلوق، وغِناهُ من لوازم ذاتِه، كما أن فَقْرَ المخلوقِ إلى خالقه من لوازم ذاتِه. وهذا المعنىَ مما يتعلق بقول الله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) تعلُّقًا قويًّا.

والناسُ يشهدون إحداثه لمخلوقاتٍ كثيرة وإفناءَه لمخلوقاتٍ كثيرة، وهو سبحانَه يُحدِثُ ما يُحدِثُه من إرادةٍ يُحِيلُها ويُعدِمُها إلى شيء آخر، ويُفْنِي ما يُفنِيه بإحالتِه إلى شيء آخر، كما يُفنِي الميتَ بأن يَصِيرَ ترابًا.

وعلى هذا تترتبُ مسائل المعاد، فإن الكلام على النشأةِ الثانية فرعٌ عن النشأةِ الأولى، فمن لم يتصور الأولى فكيف يَعلم الثانية؟

قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)). فهؤلاء غَلِطُوا في معرفة النشأة الأولى، فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلطَ، كما قد ذُكِرَ هذا في غير هذا الموضع.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير