(ميشيل فوكو ذات مرة صوّر أسلوب درّيدا بأنه يمارس "إرهاب الغموض"، نص دريدا مكتوب بلغة غامضة جداً لدرجة أنك لا تستطيع أن تستنتج بالضبط ماهي الأطروحة؟، لذلك هو "غامض"، وبعد ذلك إذا أراد الشخص أن ينتقد الكتاب سيقول له دريدا: "أنت أسأت فهمي، أنت مغفل"، لذلك هو "إرهابي")
[ J. Searl, The word turned upside down, NYRB, 1983]
والحقيقة أن هذه العبارة المتضمنة لتندر الفيلسوفين فوكو وسيرل بأطروحة دريدا عبارة شائعة في هذا المجال، والمراد من ذلك فقط طرح نموذج كاشف لحجم الخلاف داخل هذه السياقات الفكرية، مما يجعل شعار الاستعجال في تطبيق الإنسانيات على الوحي شعار فيه فهم متواضع لواقع الانثروبولوجيا الغربية، ومافيها من النزاع حول هذه المفاهيم ذاتها.
بل يصل أمر الجدل الخلافي داخل الانسانيات إلى تولُّد صراع سياسي حول اتجاهات العلوم الإنسانية، فكل مدرسة سياسية تدعم التيارات والمدارس الانثروبولوجية التي تحقق أغراضها، وهذه الظاهرة واقعةٌ باعتراف أحد المبهورين بالغرب ذاته، كما يقول هاشم صالح في اعتراف أليم:
(من المعروف أن آيديولوجيا اليمين الفرنسي، انظر جريدة الفيغارو وكل المؤسسات الضخمة الملحقة بها، تحارب بعنف العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، وخصوصاً إذا كانت ذات توجه يساري وتحرري عميق، فهي تروج –مثلاً- لأفكار ريمون بودون، عالم الاجتماع الرسمي المرتبط بالأجهزة الشرعية، وتحارب بيير بورديو الخارج على شرعية اليمين والمفكك لآيديولوجيته) [الفكر الإسلامي قراءة علمية، هامش لهاشم صالح، 178].
لاحظ أن المفكرين الفرنسيين الكبار، مثل بورديو وريمون، خاضعون لتجاذبات سياسية، بكل ما تملكه تلك القوى من مؤسسات ضخمة، لو تأمل أركون ومشايعوه بشكل كافٍ في مثل هذه الظواهر لاستوعبوا إشكالية أن العلوم الانسانية الغربية هي استجابة أولاً لإشكاليات العقل الغربي وظروفه ومطامحه وتوازناته، وبالتالي فهي مفاهيم خلافية، وفيها احتمالات واسعة للتحيز، و وهذا يفرض جهداً مضاعفاً في فحص مفاهيم العلوم الغربية، وليس الاندفاع في الهتاف بضرورة تطبيقها مباشرة كما يصنع أركون.
وربما يتضح الفرق أكثر لو قارنّا تسطيح أركون للعلوم الإنسانية، مع مفكرين عرب آخرين تعاملوا مع العلوم الإنسانية بجدية وعلمية، خذ مثلاً الدكتورة المعروفة يمنى الخولي في كتابها (مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها) عام 1990، فقد تعاملت مع العلوم الإنسانية في أساساتها المعرفية ذاتها وناقشتها بجدية، فإذا قارنا ذلك بالتسطيح الأركوني استبانت الصورة بشكل أوضح.
على أية حال .. هذه الإشكاليات الثلاث (الاستعمال الاستسلاحي، وإهدار هامش التحيز، وتغييب خلافية المفاهيم) لم يجب عنها أركون، ولا مشايعوه، إلى الآن، وإنما هم في غاية الاندفاع وبطريقة هتافية لتطبيق العلوم الإنسانية على القرآن حتى نتخلص منه ونصل للحداثة!
كم هو مثير للشفقة أن ترى أركون ومشايعيه لا يتحدثون إلا عن (تطبيق، تنفيذ، تفعيل) مفاهيم العلوم الإنسانية، وكأننا عبيد مسترقّون لا حق لنا في مناقشة هذه المفاهيم الغربية، أصبحت مهمتنا فقط أن نبادر، وعلى وجه الاستعجال، إلى تطبيق هذه المفاهيم الانثروبولوجية على التراث.
حسناً .. توقفوا قليلاً، أليس من حقنا قبل أن نندفع في تطبيق هذه المفاهيم أن نناقش مدى علميتها وموضوعيتها؟ أليس من حقنا أن نقترح مفاهيم بديلة؟ أليس من حقنا أن نعدل بالإضافة والحذف والشطب في عناصر هذه المفاهيم لتتوافق مع قناعاتنا؟
أركون ومشايعوه يريدون منا أن نكون (مندوب مبيعات) دورنا فقط هو توصيل (منتجات الانثروبولوجيا الغربية) إلى المستهلكين بأوسع نطاق ممكن، ولا حق لنا كمندوبي مبيعات الاعتراض على مواصفات المنتج، فهذا حق حصري للمصنع الغربي فقط!
والمراد أن مواجهة خطاب أركون وزمرته يجب أن تكون مواجهة مزدوجة: تخليص التراث الإسلامي من تحريفهم إياه لإسقاطه، وتخليص العلوم الإنسانية من تحريفهم لها لخدمة أغراضهم العلمانية التقليدية.
-بحوث "يجب أن نبحث":
منذ السبعينيات وأركون يقول لدي برنامج عمل لتطبيق العلوم الإنسانية، يجب أن نطبق العلوم الإنسانية، يجب أن ندشن، يجب ويجب ويجب .. الخ. منذ أربعين سنة وهو يردد وجوبيات البحث، ولكنه لم يبحث فعلاً.
¥