سواء سميتها: اللامطروق، أو اللامبحوث، اللامُتنبه إليه، أو المهمّش، أو المقموع، أو التفكير خارج الصندوق الخ، فالقضية لا تعدوا مجرد اشتقاق لفظي لممارسة علمية معروفة منذ الأزل، فالخداع اللغوي يوهم القارئ البسيط أن اللفظ الجديد يقتضي أن فيه محتوى جديد!
ثم إن تطبيق أركون لهذا المفهوم تطبيق مضحك، فهو دوماً يخلط بين أمرين (اللامفكر فيه) و (المفكر فيه لكنه مرفوض)، فيجعل الثاني لامفكراً فيه، وهذا خطأ محض، وسأضرب مثالاً لتوضيح ذلك:
أشهر وأكثر تطبيق لهذا المفهوم يكرره في كتبه قوله أن: مسألة الخطأ في تدوين القرآن وجمعه هو من اللامفكر فيه، وهذا بصراحة سذاجة علمية خالصة، فمسألة احتمال تحريف القرآن أثناء جمعه مسألة مبحوثة بكثافة، وفيها سجالات كثيرة بين أهل السنة وخصومهم، ورد أهل العلم على هذه الأطروحة بكثرة، وفيها عشرات الرسائل الجامعية في مناقشة المستشرقين في هذه القضية، فكيف تكون أطروحة لا مفكراً فيها؟! لو قال أنها أطروحة مفكر فيها لكنها مرفوضة لكان كلامه صحيحاً.
ثم إننا نستطيع أن نشتق ألفاظ جديدة لممارسات معروفة مسبقاً وندعي أن هذا تجديداً كما يفعل أركون، فبخصوص هذا المصطلح (اللامفكر فيه) الذي لا يعني شيئاً أكثر من معنى (غير مطروق) نستطيع أن نأتي لممارسة معروفة في البحث العلمي وهي ضرورة مراعاة الزمن في الإفتاء بالأحكام الشرعية، وأي فتوى شرعية لم يراع فيه الزمن فهي مختلة، حسناً سنشتق لفظاً جديداً لهذه الممارسة وسنسميه (اللامزمن) ونعني به أي حكم شرعي لم يراع فيه الزمن، وسنطالب يإعادة قراءة التراث على ضوء مفهوم (اللامزمن) من أجل تخليص التراث من أي حكم شرعي يناقض مفهوم (اللامزمن)، وننتج المقالات تلو المقالات في عبقرية هذا المفهوم وكونه (مفهوم شغال)! فهل يقبل طالب علم يحترم نفسه أن يلعب هذا الدور التمثيلي؟!
والمراد من هذه الأمثلة إثبات أن الخداع اللغوي لإيهام القراء أن اللفظ الجديد يعني أن فيه محتوى جديد عملية ميسورة، لكن تأباها النفوس السامية.
سلوكيات غريبة:
يتمتع أركون بسلوكيات في غاية الغرابة، تقلص من احترامه لدى القارئ، خذ بعض الأمثلة:
نحن نعرف أن العلوم الانسانية والاجتماعية علوم متفرعة تتشظى باستمرار، فعلم الاجتماع –مثلاً- يتفرع إلى فروع ثانوية في كل منها نتاج هائل من البحوث، وكذلك اللسانيات والاقتصاد والقانون والنقد الأدبي والعلوم السياسية الخ، ولذلك تجد مثلاً متخصص مشهور في القانون تسأله بعض الأسئلة فيقول بكل ثقة "ليس لدي تصور أنا متخصص فقط في الحقل الفلاني من القانون، يمكنك أن تسأل فلان"، وهذه الظاهرة واجهتها كثيراً لدى المتخصصين الغربيين، وهي ظاهرة طبيعية، فغزارة النتاج البحثي المعاصر في العلوم الحديثة فرض ظاهرة جديدة وهي أن المتخصص في علم واحد لا يستطيع ملاحقة بحوث ذلك العلم بذاته، فيحتاج إلى التخصص داخل التخصص.
ولكن أركون –ماشاء الله تبارك الله- يدعي بأنه يطلع على "جميع البحوث" التي تكتب عن "جميع فروع" العلوم الإنسانية والاجتماعية، بـ "جميع اللغات" الغربية، لكن ليس لديه وقت لنقلها للغة العربية، ولذلك يترك مهمة النقل للعربية للمترجمين، كما يقول عن نفسه:
(لم يتسع لي الوقت مع الأسف لأقوم بعملين مهمين مجهدين في وقت واحد وهما: متابعة التيارات العلمية المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالاطلاع على جميع مايصدر من كتب باللغات الغربية، ثم إيجاد المصطلحات اللازمة لنقل أجهزة المفهومات المتجددة والمتحولة من كل لغة من اللغات الأصلية، الانجليزية والفرنسية والألمانية خاصةً، إلى العربية، إني أعترف بأهمية هذا العمل، ولا أزال أقوم به في محاضراتي الجامعية) [تاريخية الفكر العربي الإسلامي، 7].
لا أعرف مفكراً غربياً معاصراً لديه من الصفاقة ما يكفي لإطلاق هذه الدعوى، إن من يقول هذا الكلام هو المسؤول الأول عن تسرب الشك في صدقية الكاتب لدى القارئ، هذا لا يورثنا الشك فقط فيما لم يعرضه أركون من العلوم الإنسانية، بل يورثنا الشك –أيضاً- فيما يعرضه من هذه العلوم هل اطلع عليها بشكل كافي أم مجملات وعمومات لإيهام القارئ بالاطلاع؟، فالصدقية إذا انهارت أكلت الأخضر واليابس.
¥