لكن لو سلم بصحة إسناده فإنه - كما يقول ابن عبد البر- محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصوده، فكانت الإشارة إليها، يريد أنها مثل الغلام الذي قتله الخضر، وهو كذلك فإنه برواية أحمد بلفظ: "إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: "لا"، قال: فإنها كانت وأدت أختاً لنا في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئاً، قال: الوائدة والموؤدة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فبعفو الله عنها ".
الثالث: حديث عائشة عند أحمد: أنها ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطفال المشركين، فقال: " إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار: أي أصواتهم.
الجواب: أنه من رواية أبي عقيل بن المتوكل عن بُهَيَّة، عن عائشة، وأبو عقيل ضعيف فلا حجة في حديثه.
الرابع: حديث علي، قال: سألت خديجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ولدين لها في الجاهلية فقال: "هما في النار "، فلما رأى الكراهية في وجهها قال: " لو رأيت مكانهما أبغضتهما "، قالت: يا رسول الله فولداي منك؟ قال: " في الجنة "، ثم قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: " إن المسلمين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين".
والجواب: أن هذا الحديث أخرجه أحمد من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن زاذان، عن علي، ومحمد بن عثمان مجهول، وزاذان لم يدرك علياً فلا حجة في هذا الحديث.
القول الثاني:] أنهم ناجون، وهو قول مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد، واختاره كثير من المحققين، كالبخاري، وابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن حجر، وغيرهم ودليلهم أمور
أحدها: عموم الآيات القاضية بأن الله لا يعذب من لم يرسل إليه رسولاً، وقد تقدم سردها.
الثاني: قول الله -تعالى-: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، فكيف يعذب الله الأطفال لأجل شرك آبائهم؟
الثالث: حديث سمرة عند البخاري مرفوعا: " والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله فأولاد الناس "، وأولاد الناس " لفظ عام يشمل أولاد المسلمين وأولاد المشركين.
وقد اختلف أصحاب هذا القول، هل يدخلون الجنة، أو يمتحنون بنار تؤجج لهم، كما في المسألة السابقة؟ والقول في هذه استدلالاً وجواباً كالقول في تلك، وقد ترجح هناك أن الامتحان لم يثبت بدليل صحيح فلا يصح القول به، وهو كذلك هنا، وقد قال ابن عبد البر في الحديث المسوق هناك: " ليس من أحاديث الأئمة الفقهاء، وهو أصل عظيم، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيف في العلم والنظر، مع أنه عارضها ما هو أقوى منها".
هذا وقد نقل عن بعض المتقدمين التوقف عن اختيار قول في هذه المسألة، فسكت بعضهم، وقال آخرون: الله أعلم بهم، وقال آخرون: هم تحت المشيئة، تأولاً لحديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً:" الله أعلم بما كانوا عاملين "، وليس السكوت عند المحققين قولاً، ثم إن المراد بالحديث: أن الله يعلم ما سيعملونه لو عاشوا، أو أن الله يعلم ما سيعملونه عند الامتحان في الآخرة، على القولين في إثبات الامتحان وليس المراد به أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في أمرهم.
وأما ما نقل عن بعضهم أن أطفال المشركين من أهل الأعراف، فليس قولاً مخالفاً للقولين المتقدمين، لأن الأعراف ليست قراراً، فأهلها يؤولون إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
قال ابن تيمية:" لا أعرفه عن خبر، ولا أثر، ولا يعارضه ما مر من قوله تعالى: (ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) لأنه مختص بحي عاش منهم إلى أن يبلغ"، وقال السبكي: " هذا القول لا أعرفه، ولا أعرف حديثاً ورد به، ولا قاله أحد من العلماء فيما علمت".
وأما ما نقل عن بعضهم أنهم خدم لأهل الجنة فليس قولاً، وإنما فيه حديث عن أنس وسمرة مرفوعاً، وعن سلمان موقوفاً، وعن طاؤوس مرسلاً، ولم يصح فيه شيء،فأما حديث أنس فأخرجه أبو داود الطيالسي وأبو يعلى من طريق يزيد الرقاشي، عن أنس، والرقاشي ضعيف، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق مقاتل بن سليمان، عن قتادة، عنه، ومقاتل قد أجمعوا على تركه، وأما حديث سمرة فأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق عباد بن منصور، عن أبي رجاء، عنه، وعباد ضعيف، وأما حديث سلمان فأخرجه معمر في الجامع عن قتادة، عن الحسن، عنه، وقتادة والحسن قد عنعنا في الإسناد وهما مدلسان، ولو صح فهو موقوف على سلمان، وأما حديث طاؤوس فأخرجه معمر في الجامع عن ابن طاؤوس عن أبيه، وهو مرسل، قال بن القيم:" روي فيه حديث لا يثبت".
والحاصل: أن القول الثاني أظهر القولين، وهو أنهم ناجون، وأنه لا يصح الجزم بأنهم يمتحنون يوم القيامة، بل التحقيق نفي وقوعه،والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
كتبه د. عبدالعزيز البجادي جامعة القصيم