وأما الجواب بالتسليم فنقول: سلمنا أن المراد بـ (في) هو الظرفية لكن لا نسلم أن المراد بـ (السماء) هي ذات الأطباق الزرقاء بل المراد بها العلو، فإن كل ما علاك فهو سماءٌ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى (وأنزلنا من السماء ماءً) والماء لا ينزل من السماء الزرقاء بل من السحاب المسخر بين السماء والأرض، فعلى هذا لا يكون في الآية ما يتعارض مع العقل، بل هي موافقة له كل الموافقة؛ لأن العقل السليم يفرض صفة العلو المطلق لله تعالى.
ومنها: ما يُروى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض فمن قبله وصافحه فكأنما قبل يد الله تعالى وصافح يمينه)). فقالوا: هذا الحديث يتعارض مع العقل؛ لأنه يثبت عقيدة الحلولية وأن الله تعالى حال معنا، فهو يثبت أن أحدًا يصافح الله تعالى.
والجواب أن يقال: لا تحكموا قبل النظر في صحة الدليل والنظر في صراحة العقل، فهذا الكلام إذا نظرنا له من ناحية سنده مرفوعًا فهو إسناد مظلم لا يجوز معه نسبة هذا الكلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يُعرف موقوفًا على ابن عباس - رضي الله عنه -، إذًا فقدْ فقدَ هذا الكلام شرطًا من الشروط وهو صحة السند، لكن نقول: هذا الكلام من ابن عباس ليس للرأي فيه مجال، وابن عباس لا يأخذ من أهل الكتاب، فله حكم الرفع. والقاعدة عند أهل السنة تقول: إذا قال الصحابي قولاً ليس للرأي فيه مجال، ولم يكن يأخذ عن أهل الكتاب فله حكم الرفع، وفيه قال الناظم:
وغيرهم واحكم له بالرفع بشرطه الآتي فخذه وارع
إن لم يكن للرأي فيه معتنق ولم يكن يأخذ عمن قد سبق
بل هذا الأثر لا يتعارض مع العقل حتى وإن كان من كلام ابن عباس - رضي الله عنه - وذلك من وجوه:
أولها: أن ابن عباس قال: (يمين الله تعالى في الأرض)، ولم يطلق هذه اليمين فهي يمين مقيدة بأنها في الأرض، ويمين الله تعالى ليست في الأرض وإنما هي في السماء، فعلم أنه لم يرد حقيقة يمين الله تعالى.
والثاني: أنه قال: (فمن صافحه وقبله فكأنما صافح) وهذا في اللغة أسلوب تشبيه، ومن المعلوم بالعقل أن المشبه ليس هو المشبه به، فدل هذا على أنه أراد التقريب فقط لا إرادة التمثيل، أي إن الذي يقبل الحجر كأنه بمنزلة من قبَّل يد الله تعالى، ومن صافح الحجر فهو بمنزلة من صافح يمين الله تعالى؛ وذلك لأن عادة الملوك إذا دخل عليهم رعاياهم قبلوا أيديهم ولله المثل الأعلى ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه.
ومنها: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أجدُ نَفَسَ الرحمن من قِبَل اليمن)) فقالوا لنا: قد وقعتم وقعةً لا تخرجون منها، فإننا لو أخذنا بظاهر هذا الحديث فنحن حلولية ولا شك، إذ فيه إثبات أن الرحمن حال ببعض مخلوقاته، قلنا: لستم أيها الأغبياء من يوقع أهل السنة في شبهاتكم، فإنها كما قال الخطابي:
حججٌ تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
فلننظر أولاً في صحة الدليل ودرجة ثبوته فنظرناه، فوجدناه في غاية الصحة، فلما تأكدنا من ثبوته نرجع إلى حقيقة معناه فوجدناه من أعظم الأدلة على صحة قاعدتنا من أنه لا يمكن أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح، وبيان ذلك: أن الذي أوجب لكم الإشكال في هذا الحديث هو كلمة (نفس) وتحسبونها من النفس المعروف، وهذا جهل منكم، بل هي من نَفَّس يُنفِّس تنفيسًا، أي من التفريج، أي إن تفريج الله لعباده يكون من قبل اليمن، وهذا هو الذي حصل، فإن الله تعالى نفس على عباده في حروب الردة بأهل اليمن، فهم أهل إيمانٍ وحكمة، فعلى هذا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ لا يكون في الحديث أي إشكال ولله الحمد والمنة.
ومنها: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: عبدي مرضت فلم تعدني ... جعت فلم تطعمني ... استسقيت فلم تسقني)).
فقالوا: لئن فررتم من الحديث الأول فلن تفروا من هذا، فإن هذا الحديث معارض للعقل من كل وجه فإن العقل يوجب لله تعالى صفات الكمال وهذا الحديث فيه وصف الله تعالى بالجوع والضمأ والمرض فالواجب هو اطراحه، كذا قالوا ولبئس ما قالوا، هذا هو دأب القوم يجعلون عقولهم الناقصة وأهوائهم النتنة حاكمة على نصوص الكتاب والسنة فأي نص يعارضها رموا به عُرض الحائط غير آبهين به.
والجواب عما ذكروه أن يقال: الدليل لنا لا لكم؛ فالسند مثل الشمس فقد رواه مسلم، وأما معناه الصحيح، فيفسره آخر الحديث، فإن في آخره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده أما إنك لو عدته لوجدتني عنده، أما علمت أن عبدي فلان استطعمك فلم تطعمه أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، أما علمت أن عبدي فلان استسقاك فلم تسقه أما إنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي)) فهذا الكلام فيه تصريح لأهل العقول السليمة أن الله تعالى لم يمرض ولم يجع ولم يضمأ وإنما الذي جاع هو المخلوق والذي عطش واستطعم هو المخلوق، فهذا موافق للعقل السليم أتم الموافقة، والفروع على هذه القاعدة كثيرة وإنما المقصود الإشارة، والله تعالى أعلم. "
¥