ولا ريب أن هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوما لا محيد عنه، وإنما التبس مثلُ هذا؛ لأن الواحد من هؤلاء يبني على المقدمة الصحيحة في موضع، ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر؛ فيظهر من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها، لكن قد يكون ما أثبتوه في أحد الموضعين صحيحا متفقا عليه، فلا ينازعهم الناس فيه ولا في مقدماته، وقد تكون المقدمات فيها ضعف، لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها، وإنما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع.
ج317
وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع، وبيّنا أن لفظ الجزء والغير والافتقار والتركيب ألفاظٌ مجملة موهوا بها على الناس، فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده.
ج321
والذين فرقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا: القيام بالنفس والقدم ونحو ذلك من الصفات النفسية بخلاف العلم والقدرة؛ فإنهم نظروا إلى ما لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره فجعلوه من النفسية، وما يمكن تقديرها بدونه فجعلوه معنويا، ولا ريب أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه ليس قائما بنفسه، بخلاف ما يقدر أنه عالم فإنه يمكن تقدير ذاته بدون العلم.
وهذا التقدير عاد إلى ما قدروه في أنفسهم، وإلا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية، فهو عالم بنفسه وذاته وهو عالم بالعلم وهو قادر بنفسه وذاته، وهو قادر بالقدرة فله علم لازم لنفسه، وقدرة لازمة لنفسه، وليس ذلك خارجا عن مسمى اسم نفسه.
70ج3
وهؤلاء تجدهم مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها وأشرفها وأسناها؛ لا يحققون ما هو المقصود منه، بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق، وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها، بل قد يورثون الناس شكا فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية.
ج397
وهؤلاء كثيرا ما يغلطون؛ فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل، وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة.
97ج3
ولهذا لما بنى الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان، وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل؛ حصل ما حصل؛ فكان مثَلُ هؤلاء مثَل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون، وتركوا واحدا ظنا أنه يكفي في قتال العدو، وهو أضعف الجماعة وأعجزهم، ثم إنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد.
ج3104
وهاتان المقدمتان: وهو أن كل حادث فلا بد له من محدث، وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجودا، مع أنهما معلومتان بالضرورة؛ فإن كثيرا من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية ويحتجون على ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة لكن النتيجة أبين عند العقل من المقدمات؛ فيصير كمن يحد الأجلى بالأخفى، وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقا؛ فقد ينتفع به في مواضع، مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية، دون ما [هو] أخفى منها، ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة لمن يرى أن حصوص العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده وأحب إليه، وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة لم تكن مزية على العامة، ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك أن مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا لم ندعه عجزا وجهلا، وإنما أعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه، واشتغالا بما هو أنفع من تطويل لا يحتاج إليه إلى أمثال ذلك من المقاصد.
304ج3
وكذلك كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا؛ أمور نسبية؛ فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال، وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول؛ فضلا عن أن يكون مظنونا، وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال، ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى،
وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض؛ولهذا كل ما عارضه؛ فهو باطل مطلقا،
ومن هنا يتبين لك أن الذين بنوا أمورهم على مقدمات؛ إما ضرورية أو نظرية أو قطعية أو ظنية بنوها على أمور تقبل التغير والاستحالة؛ فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وأما ما جاء به الرسول فهو حق لا يقبل النقيض بحال.
ج3308
¥