والتزكيات البليغة للصحابة في نصوص الشريعة مستفيضة بدرجة عالية , وكلها تؤكد على مدى العمق الإيماني الذي كان الصحابة يتمتعون به وعلى الصلابة الدينية التي اتصفوا بها وعلى العمق الإدراكي التي توصلوا إليه.
ومن المستبعد عقلا أن تأتي تلك الثناءات في حق أقوام مصابون بالضعف في التمسك بقيم الإسلام أو يتصفون بالليونة في الأخذ بتعاليم دينهم وقيمه , أو يعانون من السطحية الإدراكية لحقيقته , فهل من المقبول عقلا أن يكثر الله تعالى من الثناء على الصحابة في القرآن وهو يعلم أنهم غير صادقين في دينهم أو غير صارمين في التمسك به أو غير مدركين لحقيقة أصوله؟! وهل من المقبول عقلا أن يثني الله عليهم بذلك الثناء وهو يعلم أنهم سينقلبون على تعاليم دينه وسيتخلون عن قيمه وأصوله بعد موت رسوله ويعودون إلى قيم الجاهلية؟!!
إن إمكان حدوث ذلك من أكبر القوادح في بيان القرآن , ومن أفتك الخروقات التي تنخر في هدايته وإرشاده للخلق , ومن أعظم ما يصرف الناس عن قبول أحكامه والرجوع إليه.
بل إمكان حدوث ذلك سيفتح الباب أمام الباطنية القديمة والمعاصرة الذين أولوا المعاني الكبرى في القرآن , كالصلاة والزكاة والصيام والحج بمعاني مختلفة تماما عن المراد منها وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم , وسيقولون: إذا جاز أن تكون تلك الثناءات الكثيرة التي جاءت في القرآن على الصحابة ليست تأكيدا على إيمانهم ولا على صلابة تدينهم ولا على عمقهم علمهم , وأنها جاءت في حق أناس سينقلبون على ما أظهروه بعد موت نبيهم , فإنه يجوز لنا أن نؤل المعاني المستفيضة على غير ظاهرها.
الدلائل العقلية والحالية:
ويدلل على صحة تفوق الصحابة في خواص الأجيال الأولى دلائل عديدة من العقل والواقع , ومن تلك الدلائل:
الدليل الأول: الارتباط الروحي والمعاشي بالنبي صلى الله عليه وسلم:
فالتاريخ يكشف لنا بصورة قاطعة مدى ارتباط الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياتهم , فقد كانوا محيطين به لا يفارقونه في حضر أو سفر ويلازمونه في المسجد وفي البستان ويلتقون به في كل يوم لا يغيب عنهم ولا يغيبون عنه , وهذا الارتباط من أقوى الأدلة العقلية والواقعية التي تدل على منزلة الصحابة في فهم الدين وعلى عمق إيمانهم بقيمه وأصوله وشرائعه وعلى صلابة تدينهم وتمسكهم به؛ لأن الله تعالى اختار لخاتم أديانه وأكملها وأوسعها أكمل الخلق في المؤهلات المستوجبة لتبليغ الدين العظيم وغرسه في قلوب الناس ومشاعرهم , فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالدين وبلغة العرب وهو أفصح الناس في البيان وهو أنصح الناس للناس وأحرصهم على الهداية , وهذه الأوصاف الثلاث متوفرة فيه في غاية الكمال.
وفي شرح هذه الكمالات وغيرها يقول ابن تيمية:" معلوم للمؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره وأنصح من غيره للأمة وأفصح من غيره عبارة وبيانا , بل هو أعلم الخلق بذلك , وأنصح الخلق للأمة , وأفصحهم , فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة. ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان. والرسول هو الغاية في كمال العلم والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين والغاية في قدرته على البلاغ المبين" (الفتاوى 5/ 31).
وفضلا عن ذلك ما وهبه الله من الكمالات التي اتصف بها والمواهب الإلهية التي تفيض عليه جراء اتصاله بالوحي الرباني , وهذا الأحوال تستوجب على المحيطين به الاستغراق في التفاني في محبته , والتعلق به والاندماج في التأسي بما بنصائحه وتوجيهاته , وقد وصف عروة بن مسعود يوم كان مشركا حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له فقال:" والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم" (مسند الإمام أحمد 18928).
¥