أنّ جملة مما ذكر أبو عبد الرحمن في شأن الروايات الواردة عن السلف في هذه المسألة غير صحيح البتة، والبرهان على ذلك موجود في الروايات.
فقد أطلق غفر الله له عدة أحكام أسوق أهمها، متْبعاً كل حكم منها التعقب عليه فيما يأتي:
1 - ذكر أنّ السلف الأول لم يصح عنهم كلمة واحدة في الموضوع، وأنّ الخبر إنما ورد عن سفيان الذي لم يدرك من الصحابة أحداً.
هكذا صوَّر أبو عبد الرحمن المسألة: كلمة فاه بها رجل بعد أن انخرم جيل الصحابة! فبداية الجزم بأنّ القرآن غير مخلوق إنما كان اجتهاداً من سفيان، دون أن يحدد (ابن عيينة أو الثوري).
والحق أنّ الأمر قبلهما بدهر، حيث ثبت عن علي بن الحسين زين العابدين أنه سئل عن القرآن فقال: «ليس بخالق ولا مخلوق، وهو كلام الخالق». كما في (الأسماء والصفات: (534) للبيهقي، وغيره).
وعلي هذا قد روى عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، كما في (تهذيب التهذيب 7 - 304)، بل إنه مات عام (93) كما في التقريب (3715) وجيل الصحابة لمّا ينقض بعد، وبين وفاته ووفاة سفيان بن عيينة أكثر من (100) عام، كما أن بين وفاته ووفاة سفيان الثوري (68) عاماً.
و ثبت عن جعفر بن محمد حفيد علي مثلما ثبت عن جده، عند البيهقي في (الأسماء والصفات 536، 537) وجعفر أيضا قبل السفيانين.
وسأورد إن شاء الله ما هو أهم من ذلك كله عند الكلام على ما يعد اتفاقاً عامّاً على المسألة عند الأمة في رواية عمرو بن دينار التي حكت حقيقة قول السلف من الصحابة ومن بعدهم.
2 - ذكر أن كل ما ورد عن الصحابة في المسألة لا يصح، وأنهم لم يقولوا فيها كلمة واحدة، ثم جزم بتكذيب ما ورد عن ابن عباس في تفسير قول الله عن القرآن في أول سورة الكهف ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا? (الكهف:1) حيث قال: «غير مخلوق» واحتج على بطلانه أيضاً بأن الآية الثانية من السورة فيها ما يدل على خلاف هذا التفسير.
والذي ذكره غير واحد عن ابن عباس هو في تفسير آية (الزمر:28) ?قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ?، وأشار البغوي في (التفسير 5/ 143) إلى أنّ الرواية وردت بذلك عن ابن عباس في هذه الآية، لا في آية الكهف.
وجزْم أبي عبد الرحمن بكذب المروي عن ابن عباس غريب، فإنّ الخبر رواه الآجري (160) وليس في رواته عنده من رمي بالكذب، وإن كانت الرواية فيها راوٍ ضعيف، والفرق كبير بين رمي الراوي بالكذب، ووصفه بالضعف.
خاصة وأنّ الرواية بذلك جاءت عن ابن عباس من طُرُق، كما ذكر الأصبهاني في (الحجة 1/ 227) وكما نبّه البيهقي حين أشار إلى بعض طرقه في (الأسماء والصفات: 518) والخبر الذي يُروى من طرق لا بد من الوقوف على طرقه كلها، حتى يُجزم بالحكم عليه، فقد يُروى من طريق يصح به الخبر، لا سيما وأنّ إمام المحدثين أحمد بن حنبل لمّا بلغه هذا الخبر كتب إلى أحد رواته بإجازته فأجازه فسُرّ أحمد، وقال: كيف فاتني عن عبد الله بن صالح هذا الحديث؟ كما في (الشريعة للآجري (160)).
ومما ورد عن الصحابة في المسألة قول علي رضي الله عنه - حين لامه الخوارج في أمر التحكيم -: «ما حكّمت مخلوقاً ما حكمت إلا القرآن» (رواه اللالكائي 730، 731) وقال البيهقي حين رواه في (الأسماء والصفات: 525): «هذه الحكاية عن علي رضي الله عنه شائعة فيما بين أهل العلم، ولا أراها شاعت إلا عن أصل».
وهذا يؤكد على أمر التأني في إطلاق الحكم على الروايات، مع أني لا أريد الدخول في الحكم على أسانيدها فذلك يحتاج إلى دراسة مفصَّلة في مناسبة غير هذه، غير أني أحببت التنويه إلى أمر التريث في الحكم، خاصة في رمي الرواة بالكذب فإنّ أمره عظيم، وقد يسأل الله عنه قائله حين يخاصمه من رماهم به بين يديه تعالى.
3 - ذكر أبو عبد الرحمن أنّ القول بالوقف هو الذي سار عليه الصحابة رضي الله عنهم، في الوقت الذي أكد فيه أن المسألة برُمّتها لم تحدث أصلا إلا بعدهم!
وهذا مستدرك من وجوه، منها:
¥