أ- أن على من ينسب إلى الصحابة قولاً ساروا عليه - بهذا الإطلاق - أن ينقل عنهم ما يدل عليه من صريح قولهم، وقد قدّمنا أن القائلين بالوقف لا يمكنهم أن يرووا عن الصحابة حرفاً واحداً يدل على قولهم بالوقف، وأبو عبد الرحمن نفسه ذكر أن المسألة لم تحدث إلا بعدهم، فكيف إذاً ساروا على هذا القول؟ وقد تقدم أن مقالة الوقف إنما نشأت متأخرة، على يد الجهمية، كما نقلنا عن أحمد وغيره.
ب- إن قيل: فهل يروي القائلون بأن القرآن غير مخلوق عن الصحابة شيئاً يبيّن ما الذي ساروا عليه؟
فالجواب أنهم يروون روايات ذكرتُ بعضاً قليلاً منها، فينبغي لمن أراد الخوض في هذه المسألة أن يدقق فيها ولا يغفلها.
فإن ادعى ضعفها فليبرهن على ذلك، مستنداً إلى قواعد المحدِّثين المعروفة في التصحيح والتضعيف، مجيباً على كل ما ورد في هذا الباب.
ولو فرضنا أنه برهن على ذلك فلا بد له من النظر في الروايات العامة التي وردت عن الصحابة بشأن القرآن، والسبب أن التابعين - وهم تلامذة الصحابة وأعرف الناس بمنهجهم - قد استنبطوا من تلك الروايات قول أصحاب نبيهم في المسألة حين وقعت.
ومن أظهر ما يجلي ذلك -ويجلي حقيقة موقف الصحابة- ما ثبت بسند صحيح عن تلميذ الصحابة الجليل عمرو بن دينار عند (الدارمي في الرد على الجهمية (344) وغيره) أنه قال: «أدركت أصحاب النبي فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق، وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله، (منه خرج)، وإليه يعود».
فتأمّل كيف قرن الصحابة رضي الله عليهم بين حقيقتين كبيرتين، الأولى: أنّ القرآن كلام الله، مضافاً إليه وحده؛ لأنه منه خرج، أي هو المتكلم به كما فسره الإمام أحمد في (السنّة للخلال (1859))، ثم أوضحوا الحقيقة الثانية، وهي أن كل ما سوى الله فهو مخلوق، ولا ريب أن ذلك يقتضي أن القرآن غير مخلوق، لأن القرآن (من الله)، وليس من الله شيء مخلوق قطعاً.
فهذه العبارة العظيمة التي نقلها عمرو بن دينار عن الصحابة بالصيغة الدالة على أنهم كانوا ينشرونها في الأمة قد رسمت للتابعين منهجاً واضحاً انطلقوا منه، حين ظهرت مقالة الجهمية الشنيعة في القرآن، فلم يتردد التابعون في ردِّها، انطلاقا مما كان يقرره لهم أصحاب محمد، فقال تلميذ الصحابة الجليل أبو عبد الرحمن السلمي كما في (الأسماء والصفات للبيهقي (504) وغيره): «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الرب على خلقه، وذلك أنه (منه)». يعني القرآن.
فجعل الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق كالفرق بين الله وبين المخلوقين، ثم أوضح أن السبب في ذلك هو أن كلام الله (من الله)، فصار بالمقام الذي لا يمكن أن يُقارَن بينه وبين كلام المخلوقين، فكما أن الرب الذي قاله لا يقاس بالمخلوقين فكذلك لا يقاس كلامه تعالى بكلامهم.
وقد ركّز كثيرون من علماء الأمة على هذه الحجة المستمدة من كلام الصحابة رضي الله عنهم، فكان علماء مدينة النبي يقولون: «القرآن من الله، وليس (من الله) شيء مخلوق» كما رواه (اللالكائي (478)).
وجاء هذا عن غير واحد من أهل العلم كمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فيما رواه اللالكائي (474) وحجاج الأنماطي كما في (السنة للخلال (1932)) وغيرهم من أهل العلم.
وقرّر وكيع بن الجراح ذلك مقروناً بدليله من القرآن، فقال كما عند اللالكائي (359): «من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق» فسُئل: من أين قلتَ ذلك؟ فقال: «لأنّ الله تبارك وتعالى يقول ?وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? (السجدة:13) ولا يكون (من الله) شيء مخلوق» كما أوضح ذلك الإمام أحمد جليّاً، ففي (السنّة للخلال (1848)) أنه قال لمن سأله عن القرآن «ألستَ مخلوقا؟ فقال: نعم، فقال: أليس كل شيء منك مخلوقا؟ فقال: نعم، فقال أحمد: فكلامك أليس هو منك، وهو مخلوق؟ فقال: نعم، فقال: فكلام الله عز وجل أليس هو (منه)؟ فقال: نعم» فأجابه أحمد بصيغة سؤال الإنكار: فيكون (من الله) شيء مخلوق؟».
وقال علي بن المديني في الاعتقاد الذي رواه (اللالكائي (318)): «القرآن كلام الله، ليس بمخلوق، ولا تضعُفْ أن تقول: ليس بمخلوق، فإنّ كلام الله ليس بباين منه، وليس (منه) شيء مخلوق».
¥